قال صاحبي: بعد سلسلة الاضرابات الجهوية، ثم قرار الاضراب العام برز جدل سياسي جديد في وسائل الاعلام لم نعرفه من قبل عنوانه: هل يجوز للاتحاد العام التونسي للشغل أن يولي الملف السياسي في البلاد عنايته، ويتخذ موقفا حول جميع القضايا الوطنية الكبرى، وفي طليعتها القضايا السياسية بطبيعة الحال؟ وجاء الجواب الأسبوع الماضي صارما، واضحا: انها بدعة جديدة لم نسمع بها منذ الاستقلال. ان جميع الأزمات التي عاشها الاتحاد حدثت نتيجة محاولة الحزب الحاكم السيطرة عليه، وحرمانه من استقلاليته، ودفع النقابيون ثمنا باهظا ذودا عن استقلالية قرارهم، وعرفوا في سبيل ذلك السجون، والتعذيب، والمنفى، لكن لم يجرؤ أحد على القول: يجب على الاتحاد ألا يتجاوز في نشاطه المطالب الاجتماعية البحتة، ويعلل أصحاب هذا الادعاء قائلين: ان الاتحاد ليس حزبا سياسيا، وبالتالي لا يجوز له الاشتغال بالسياسة، وهنا أود أن أعرف كيف تصنف الحركة النقابية بصفة عامة ؟
قلت: لا بّد بداية التأكيد على ميزة أساسية تميز الأحزاب السياسية عن النقابات، فالأحزاب تسعى الى الوصول الى السلطة لتحقيق برامجها، أما النقابات فليس هدفها ممارسة السلطة، وانما الدفاع عن مصالح الطبقة الأولى المنتجة في المجتمع: العمال، وعن الفئات الاجتماعية الضعيفة بصفة أعم، لكن ذلك لا يمنعها في ظروف معينة من مساندة حزب سياسي معين، ولا يمنعها من اتخاذ مواقف سياسية، وبخاصة عندما يكون المجتمع مهددا.
ألم يكن من الواجب على الاتحاد احتضان جميع القوى التي ناضلت ضد النظام السياسي الاستبدادي السابق؟ ألم يكن دوره حاسما في اسقاطه؟ كيف يطالب البعض بعد ذلك أن يبعد الاتحاد عن السياسة ! ذلك يعني الابتعاد عن الشأن العام ! أليس الاهتمام بالشأن العام هولبّ السياسة ؟ البون شاسع بين التحزب وبين الانكباب على الشأن السياسي، وبخاصة في المجتمعات النامية. قال صاحبي: اذا كانت النقابات ليست أحزابا سياسية، فهل تصنف ضمن قوى المجتمع المدني ؟
قلت: انها في رأيي القاطرة التي تجر بقية قوى المجتمع المدني، وهي النصل الناجع للدفاع عن مؤسساته، وأعني المجتمع المدني بهذه السمات التي حددتها يوما يوما : المجتمع المدني ليس «موضة»، بل هو ضرورة للوقوف سدا منيعا أمام موجات الردة والرداءة، وللتصدي لكل محاولات احتكار السلطة، والانفراد بصنع القرار في قضايا مصيرية تمس مصلحة الوطن، وشؤون المجتمع، فلا بد أن تسعى اذن قوى التحرر والتقدم في جميع المجتمعات، وخصوصا في المجتمعات العربية لدعم قوى المجتمع المدني، وصيانة هذا المفهوم وقيمه.
المجتمع المدني ليس بالضرورة نقيضا للدولة، أو معاديا لها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي صبغة هذه الدولة؟ فاذا كانت دولة ديمقراطية تقوم على مبدإ الشفافية، واحترام القانون، والمؤسسات الدستورية، فانه يتم التعاون والتكامل بينها وبين قوى المجتمع المدني، أما اذا كانت دولة قامعة، فإن قوى المجتمع المدني تتحول بالضرورة الى قوى معارضة.
تقف قوى المجتمع المدني بالمرصاد لكل جماعة تحاول احتكار السلطة العليا باسم حزب سياسي، أو طائفة، أو مذهب، وتتصرف في شؤون الدولة، وكأنها بستان خاص، كما هو الحال في كثير من المجتمعات النامية، ولذا فانه من الخطإ عزل المجتمع المدني عن الصراع السياسي الذي يدور في مجتمع ما، فمن أبرز أهدافه النبيلة الجام السلطة التي تحاول تجاوز الحدود، وتجاهل المصلحة العامة للمجتمع، فهو الذي يعوض صراع أصحاب المصالح، وأجنحة البلاط من أجل السلطة وامتيازاتها بالصراع من أجل الذود عن الحق، والقانون، والمؤسسات.
تزعم القوى المعادية للمجتمع المدني أن القيادة العليا هي التي تقوم بالاصلاح، ويعنون ضمنيا أنه تقوم مقام المجتمع المدني، ولكن جميع التجارب التاريخية الحديثة قد برهنت أكثر من مرة أن الاصلاح لا يتم برغبات شخصية، بل لا بد من اشراك المجتمع بكل فئاته في ترشيد مسيرته، وتعزيز خطاه، وهذا يقتضي ازالة جميع العوائق السياسية والقانونية والأمنية التي تمنعه من المشاركة في عملية الاصلاح.
هل بقي عندك شك بعد تحديد هذه السمات للمجتمع المدني أن الحركة النقابية في بلادنا، وفي العالم تقف في خضم الصراع الاجتماعي والسياسي في ذات الآن؟