برز السيد عبد الزراق الهمامي في صفوف الحركة الطلابية خلال السبعينات عرف بإنتمائه للفكر الاشتراكي في اطار مجموعة سياسية كان لها أثرها الظاهر في تاريخ الحركة الطلابية واصل بعد تخرجه اهتمامه بالشأن العام سواء بانخراطه في العمل النقابي أو السياسي. أرسلنا نريد مساهمته في ملفنا حول اتحاد الطلبة فكان رده التالي: استجابة مني لدعوتكم المشكورة لإبداء الرأي في أزمة اتحاد الطلبة وكيفية الخروج منها، رأيت انه من المفيد ان لا أعود للحديث عن معطيات وتفاصيل تضمنها ملفكم الجيد بجريدة الشعب، وان أكرّس هذه المساهمة لقضيتين: الاولى تتعلق بمقاربة في تشخيص الأزمة، والثانية تتعلق ببعض المقترحات للخروج من هذه الازمة. كيف تقيمون الواقع الحالي للاتحاد العام لطلبة تونس؟ يبدو ان هناك قدرا واسعا من الاتفاق حول عمق أزمة اتحاد الطلبة، وهناك شبه إجماع على تراجع دوره، وعلى ضرورة تحمل كل الاطراف ذات الصلة لمسؤولياتها في السعي لحل هذه الأزمة، وأقول شبه لأن الساحة لم تخل من أصوات قليلة لم تتخل مع الأسف عن نبرة المزايدة والمكابرة، والتي هي جزء من أمراض الطفولية السياسية، والتي أضرت ومازالت بالعمل السياسي والنقابي والجمعوي عموما. ولعل من أهم عناصر هذه الازمة هو ضياع الهوية النقابية لهذه المنظمة فالاتحاد العام لطلبة تونس كما هو معلوم منظمة نقابية تنهض بتأطير الطلبة على أساس انتمائهم لسلك اجتماعي معين، باعتبارهم شريحة الشباب من طلبة العلم في رحاب الجامعات التونسية، وتتحدّد آلية الانتماء لهذه المنظمة على هذا الاساس أولا، ولكن ليس على هذا الاساس وحده كما هو معلوم، اي ان هذه المنظمة هي نقابة تدافع عن المصالح المادية والمعنوية للطلبة متمثلة في توفير وتحسين شروط تلقي العلم وتنمية المعارف، والتأهيل الفكري والعلمي للطلبة حتى يسهموا ايجابيا في الحياة الاجتماعية بمختلف أوجهها، ولهذا السبب فان نقابة لادور لها في ضمان، وتحسين الظروف الدراسية والاقامة والمنحة والتدريب والتأهيل والتشغيل، تصلح ان تكون اي شيء الا ان تكون نقابة للطلبة. ومعلوم ان الاتحاد العام لطلبة تونس هو نقابة ذات توجهات ديمقراطية وتقدمية وهذه مواصفات محددة تلحق هذا الكيان النقابي القطاعي، لذلك فان موقفه وسياسته العامة تصب في اتجاه الانتصار لقضايا التحرر الوطني والاجتماعي ومناصرة المطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية والدفاع عن قيم الديمقراطية والاستنارة والتقدم. ومعلوم كذلك ان الاتحاد منظمة نقابية تقدمية تواجه واقعا معينا مدعوة للفعل فيه لتحقيق مصالح منخرطيها من عموم الطلبة، لذلك لا بد لها من تفاعل مع جهة الاشراف على هذه المصالح وهي مدعوة لإقامة شراكة مع هذه الجهة، فلا معنى لأي نقابة في الدنيا تبني سلوكها النقابي على القطيعة مع اطار الاشراف الموضوعي على منظوريها. وليس غريبا ان تسعى جهة الاشراف لتقليص دور النقابات في القطاعات التي تشمل دائرة اهتمامها، خاصة في الظروف التي تسود فيها عقلية الاستئثار بالقرار، والاستفراد بالرأي، بل أننا نرى هذه الدوائر تسعى إما الى فرض الموالاة على النقابات لتمرير سياساتها التي لا تكون غالبا ملائمة لمصلحة عموم منتسبي القطاع، او تهمّش هذه النقابات وتخلق هياكل منافسة لها تتداخل صلاحياتها معها سعيا للوصول لإلغاء دورها تماما اذا اصبح التناقض معها حدّيا. ومن واجب النقابات ان تدافع عن وجودها وعن استقلاليتها وعن حقها في المساهمة في صياغة وتنفيذ السياسة العامة المتعلقة بقطاعها، ولا يمكن للنقابة ولا للاتحاد العام لطلبة تونس تحديدا فيما نحن بصدده ان يلعب هذا الدور اذا لم يكن صاحب سياسة قطاعية متبلورة، وواضحة، وقابلة للتحقيق في اطار دوره النقابي القطاعي وتوجهاته العامة المعلومة. وغياب هذه السياسة هو احد مكامن الخلل الاساسية في وضع المنظمة النقابية الطلابية، وأحد أوجه الازمة الحالية، فالمنظمة تعجّ بالشعارات والمبادرات الحينية، وردود الفعل المباشرة محدودة التأثير ولا قدرة لها على بلورة سياسة قطاعية قادرة على التفاعل والتأثير الايجابي في السياسة العامة المتعلقة بتسيير الجامعة، وادارة الحياة الجامعية وفي جانبها المتعلق بالشأن الطالبي تحديدا (من ظروف الدراسة الى مضمونها ومخارجها)، وكيف يتأتى لها ذلك؟ وهي فاقدة لأمرين مهمين هما وجه آخر من أزمتها. المنظمة النقابية الطالبية فاقدة للجماهيرية، وفاقدة للوحدة المؤسسة على التعاطي الديمقراطي بين مكوناتها وهذه من علامات الازمة العميقة التي تمر بها المنظمة، وقد ذكر احد المساهمين في ملفكم القيّم ان من ابرز علامات الازمة هو محاكمة العشرات من اطاراتها ومن ضمنهم الامين العام الحالي دون ان تشهد الجامعة ردا جماهيريا يرقى الى مستوى الحدث. وهذا امر مفهوم، فإذا كانت المنظمة لا تؤطر حتى 2٪ من الطلبة، وهي تكاد تكون غريبة في محيطها الذي يفترض فيها لعب دور محوري فيه، بل بالعكس اصبح مناضلوها نخبة حتى لا نقول غير ذلك معزولة عن عموم جماهير الطلبة وهي تعزز هذه العزلة باستمرار، سواء بخطابها المنفصل عن واقع الطلبة او بممارسة بعض اطاراتها المنفرة لعمومهم، وطبعا بغياب النجاعة في أدائها، وتفشي ظواهر سلبية لدى العديد من رموزها، مثل استعمال العنف الذي يكشف الخواء الفكري والعملي لممارسيه. ومن مظاهر الازمة كذلك غياب الممارسة الديمقراطية وتفشي عمليات التنصيب للهياكل واستسهال الدوس على قوانينها، لقد توطن داء عدم احترام الممارسة الديمقراطية، وتغييب المنخرطين على قلتهم واستبدال ارادتهم بإدارة افراد متنفذين لا يجدون حرجا في التنصيب والتفويض، والاخراج السريالي لبعث الهياكل وشطبها، حتى انتهت المنظمة ومنذ مدة الى مقتل الازدواجية الهيكلية، وليست قصص التصحيح والتنقيح والاستثناء... الا وجها من وجوه المأساة الحالية التي اصبحت فيها المنظمة متنازعة بين هيكلين. إن القفز على عملية الانتخاب الديمقراطي واستبدالها بأي شكل من اشكال الوصاية على ارادة القاعدة هو طريق الاندثار لأي منظمة جماهيرية والاتحاد العام لطلبة تونس يعيش الآن مأزق التردي في هذا المطلب، والنتيجة المباشرة هي انعدام وحدة الهيكل وانعدام وحدة القرار وانعدام وحدة السياسة، وانتفاء امكانيات التفاعل الايجابي بين مكونات هذا الجسم النقابي، لان الحوار والاختلاف والاجتهاد في اطار الوحدة يعزز عمل وتأثير المنظمات الجماهيرية والنقابية تحديدا، اما الازدواجية، والنفي المتبادل داخل الاطار التنظيمي ذاته فيؤدي الى الدمار الحالي الذي تعيشه المنظمة. ومن مظاهر تجذّر ازمة غياب الديمقراطية وغياب الوحدة النقابية ان مبررات الازدواج والشرذمة والتجاوز للقانونية والشرعية المؤسساتية يتغذى باستمرار من تبريرات ايديولوجية سياسية بل حزبية أحيانا. فإذا كانت البداية تتعلق بالحسم في طلبة الحزب الحاكم واعلان »القطيعة السياسية والتنظيمية« الشهيرة معهم باعتبارهم انقلبوا على المنظمة، وسعوا دائما لتدجينها، فان حرف الصراع الايديولوجي عن اطاره، وجعله مدخلا للحسم في غير المنسجمين ايديولوجيا وما اكثرهم قد قاد كذلك الى نشر تشرذم اكبر عبر الحسم والقطيعة المتبادلة على اساس سياسي خطّي، بل قاد في النهاية الى تصفية حسابات حزبية ضيقة داخل مختلف الفصائل المتصارعة، وهكذا تتواصل حروب الخطوط البائسة، فكل مخالف للرأي هو عميل للسلطة، ومعادي للاتحاد، ومناهض لمصالح عموم الطلبة، وهذا خطاب تكلس وتحنط منذ فترة مبكرة من حياة المنظمة ومضى عليه الآن اكثر من ثلاثة عقود، ولا علاقة له بواقع الساحة اليوم، اذ انه خطاب تثبّت في لحظة تاريخية عفا عليها الزمن كان فيها طلبة السلطة أقلية متخفية في الجامعة، وكانت الحركة الطالبية جماهيرية عتيدة تعقد اجتماعاتها بالالاف وتشن التحركات الكاسحة، حتى انها غذّت باطلا وهم مواجهة السلطة في صراع سياسي حدي بأداة نقابية قطاعية شبابية، وهي لعمري إحدى السخافات السياسية المضحكة المبكية التي جلبت الويلات على التطور السياسي اللاحق لبلادنا. والواقع اليوم غير ذلك تماما، فطلبة السلطة هم طرف مهيكل ومعلن وفاعل ولا أدلّ على ذلك ما يحصل كل سنة في انتخاب المجالس العلمية، والاتحاد العام لطلبة تونس يعيش حالة من الانحسار الجماهيري، ومن العجز على الفعل، ومن بؤس الممارسات التخريبية التي سبق ان اشرنا لها، واصبح أشبه بجزر تدار خطيا بزعامات مقطوعة الصلة بالواقع تنهك جهودها في التقاتل الداخلي والبيئي، وتعجز عن الفعل المؤثر في صراعها مع سلطة الاشراف لتحقيق مطالب منظوريها، او مراكمة ما هو ايجابي في الدفاع عن القضايا العادلة التي تتبناها. ومن واجبنا أن نشير هنا الى أن هذا الواقع المأزوم هو حصيلة تداخل مجموعة من العوامل في طليعتها سياسات السلطة المتسمة بالهيمنة وتضييق هامش الحريات السياسية في المجتمع، وسعيها غير المعقول للتدجين، وفرض الولاء على منظمات المجتمع المدني، وهي تستخدم لتحقيق ذلك كل الوسائل، وهي عديدة ومتنوعة، ونتج عن هذا الامر انسداد الآفاق امام امكانية التنظم والنشاط السياسي القانوني فلجأ اغلب النشطاء الى الاحتماء بالمنظمات النقابية والجمعيات القانونية القائمة، عوضا عن مواجهتهم لحجب حرية التنظم السياسي عبر نضال واضح ومتماسك من اجل الحقوق السياسية وهذا أمر مكلف كما هو معلوم واستبدال اغلبهم السياسي بالنقابي بل الحزبي بالنقابي، وحمّلوا الأطر النقابية تعسفا ما لا طاقة لها بتحمله، وأصبحت النقابات والجمعيات والنقابة الطالبية تحديدا اطارا يسحب عليه ما هو شأن سياسي خاص، وما هو خلافات خطية ومواجهات حزبية. وفي هذا المناخ غير الصحي ترعرعت أوهام قاتلة مازالت الحياة السياسية في بلادنا تعاني منها، وتحمل آثار تشويهاتها المزمنة، من ذلك الاعتقاد في ان النقابة، والنقابة الطالبية تحديدا هي أداة مركزية في الصراع على السلطة او في المعارضة السياسية الفاعلة، أو الاعتقاد بأن الهوية النقابية هي اطار صالح لطرح مشاريع وبدائل ذات سقف سياسي حدّي، وهذا ما جعل أجيالا كاملة من المراهقين السياسين ينسبون أنفسهم للجامعة وللنقابة الطالبية وهم خارجها وبعيدون عن واقعها منذ زمان، الامر الذي جعلهم يتحولون بالتدريج الى مقاولين او متعهدي إسداء خدمات يمارسون عن وعي او عن غير وعي تخريب اي أفق جدّي لبناء بدائل سياسية حقيقية تتحمل مسؤوليتها في المعارضة الجدية، والاقتراح البناء للبدائل المجدية حقا في واقع مجتمعنا. وهذا واقع كارثي على الجميع تحمل مسؤوليتهم إزاءه. ما هي الحلول التي تقترحونها لمواجهة الأزمة وما هي المخارج التي ترونها؟ أول من يجب ان يتحمل مسؤولية الخروج من الازمة هو السلطة، التي عليها ان لا ترض بواقع انحسار دور اتحاد الطلبة، وواقع تفعيل منظمة طلبتها الحزبية الخاصة، وعليها أن لا تنس مثلما ذكر أحد المساهمين في الملف، إن الأعداد المهولة ممن سدت في وجوهم آفاق المساهمة الايجابية نقابيا واجتماعيا وسياسيا، قد أضحوا المرتكز القاعدي »للجهادية السلفية« وان عدد من حوكموا من هؤلاء فقط يفوق عدد عناصر الاطراف السياسية مجتمعة، ولهذا السبب فان مراجعة السلطة لخياراتها العلمية والتربوية في علاقة بما يدرّس وبأي منهج يدرّس، بات أمرا متأكدا لإقرار توجيهات علمية وتربوية نقدية ومستنيرة ووطنية وتقدمية، وكذلك بات ضروريا مراجعة السياسات الخطيرة التي تراهن على تصحير المشهد السياسي، واختزاله في حزب قائد أوحد وعناصر موالية له سياسيا ونقابيا، وتدجين كل منظمات المجتمع المدني، واعتبار دور التأطير والتأثير والفعل السياسي يجب ان يبقى بيد هذه الأداة المركزية الكليانية دون غيرها. هذه السياسة هي لعب بالنار، ونتائجها المعلنة هي الدافع نحو الحلول القصوى الكارثية، والتي لا أفق لها في المناخ السائد إقليميا وعالميا إلاّ تنمية نوازع التطرف والهروب الى الامام والمواجهات المهلكة للجميع، لأنها تدفع للاستسلام لنوازع اليأس وتفقد الناس أي أمل في النضال الايجابي القانوني والمشروع والذي يؤطر الناس ويؤهلهم لتحمل المسؤولية في ادارة الشأن العام، وان يعتبروا أنفسهم معنيين بتحقيق المصلحة ودرء الفساد والمضرّة، واذا انعدم ذلك فان البديل المتاح يصبح السكوت أي الموت البطيء أو الانتحار وعليّ وعلى أعدائي وما مشاهد الشباب الذي يسلك هذه الطريق ويهدر طاقاته وحياته لتحقيق بدائل وهميّة الا خير دليل على ذلك. ولكن هذا الأمر لا يعفي كل الاطراف السياسية ذات الصلة بهذه الازمة من المسؤولية، فعليها ان تكفّ وبوعي وارادة صادقة عن مساعي التوظيف السياسي والحزبي لهذه المنظمة النقابية، ولسائر منظمات المجتمع المدني، وان تمضي بجدّ في بناء بدائلها السياسية إن كانت لها بدائل وان تمضي في بلورة مشاريعها المعارضة والمنافسة لسياسات السلطة وهذا حقها المشروع الذي عليها ان تطالب به وتدافع عنه بمسؤولية، خدمة لتقدم المجتمع ونمائه وتحرره، وعليها ان تحرص على استقلالية منظمات المجتمع المدني وتتعهد بأن يسخر اعضاؤها داخل هذه الأطر نضالهم لصالح منظوريهم وفي انسجام عام مع قناعاتهم السياسية التحررية والديمقراطية والوطنية، فان لم يتمكنوا من ذلك وضاق بهم الأفق، يمكنهم أن يطرحوا صيغا اخرى للتنظم القطاعي وهي صيغ مرهون ثباتها او زوالها بمدى شرعيتها التاريخية، ومدى نجاعتها العملية المبررة من وجهة نظر الحاجة الواقعية لها لا غير. كما انه آن الأوان لتخليص الساحة الطالبية ومجالها النقابي المحدد من سياسات القفز على الواقع، ومواجهة الاشكاليات المترتبة عن ازمة المنظمة بواقعية وبراغماتية دون قطيعة مع التوجهات التقدمية والنضالية العامة، وإقامة حدود حاسمة وفاصلة بين اطار الفعل الاساسي في الساحة النقابية الطالبية والذي يجب ان يبقى شأنا شبابيا مباشرا وحصريا، وبين دوائر الإسناد والمساعدة التي يمكن ان تتداخل وتتضافر فيها جهود كل الطاقات المتحمسة لبذل العون تسهيلا لحلحلة بعض المشاكل العالقة وتتدخل لتوفير بعض المستلزمات او الآليات المساعدة على تصور الحلول العملية وتنفيذها بأيدي الطلبة أنفسهم ، ولا يفوتني ان أنوّه هنا بأن الساحة أبعد ما تكون عن العقم، فهي تعجّ بالكفاءات التي يجب تحصينها من نوازع الزبائنية والتوظيف المبتذل، وتتوفر فيها عديد المشاريع الجدية والتصورات التفصيلية لحل الازمة بعد حلّ العقدة السياسية الاساسية التي تحدثنا عنها ويمكن صهر كل ذلك في اطار عام يصار اليه بتوافق عبر ندوة وطنية او اي صيغة يختارها اصحاب الشأن المحدد ويقع الاعداد الجيد لها مضمونا وآليات تنفيذ بشرط ان تصان العملية منذ البداية بحزم ووضوح من اي هيمنة لأي طرف حزبي مهما كان.