• قال صاحبي : عاد الحديث بقوة هذه الأيام عن التصرف في المال العام، والمدهش أن الشبهة في سوء التصرف في أموال الدولة لم تمس هياكل إدارية ثانوية، بل التصقت منذ اليوم الأول بقمة الهرم، فلاكت الألسن رئاسة الدولة، وبلغ استغراب الناس حدا قالوا فيه : ماذا تغير عما كان عليه الأمر في مرحلة الفساد الذي نخر أسس النظام السابق ليؤدي به إلى السقوط في نهاية المطاف. بدأت الريبة تتفشى منذ أن غلقت المؤسسة الشرعية الوحيدة في البلاد الأبواب والنوافذ لتقرر امتيازات أعضائها، ثم جاء القضاء الإداري ليعلن بطلانها، وتكررت القصة، والمؤسسة تشعل شموع ميلاد عامها الأول، ولكنها شموع فاضحة، وليست مضيئة. لم يستيقظ المواطن من دهشته حتى زكمت أنفه قصة الصناديق الخاصة التي يتصرف فيها أصحاب السلطان كما يحلو لهم، ومن المعروف أن لها ضوابط صارمة في البلدان التي ابتدعتها.
• قلت : أي شيء أعجب وأغرب من أن يحدث هذا في دولة متصدعة الأركان، وفي اقتصاد متأزم، وفي مجتمع تعاني شريحة من أبنائه الخصاصة، بل قل الفقر المدقع، وبخاصة في المناطق التي أشعلت فتيل الثورة. وأي شيء أعجب وأغرب من أن يحدث ذلك في بلد ثار شعبه أساسا لإسقاط منظومة الفساد التي عشعشت في قمة الهرم. وأي شيء أعجب وأغرب من أن كل هذا يحدث والبلاد تسيرها قوة سياسية بشرت الناس أن مرجعيتها إسلامية، وهذا يعني قبل كل شيء الصرامة في إنفاق المال العام. لكل هذه الأسباب أشك في كل ما سردته من قصص، وإن كانت متواترة، وإن قال ابن خلدون يوما ما : إن التواتر يفيد القطع في بلاد المغرب.
• قال صاحبي : أنت تعلم أنني أصبحت شغوفا بالتاريخ الإسلامي بعد أن أنعم الله علينا، معشر المؤمنين، ببلوغ الإسلام السياسي سدة الحكم، ولكنني لا أعرف كثيرا عن موقف الإسلام من التصرف في المال العام ؟ • قلت : ليس من المبالغة القول في هذا الصدد : إن النظام المالي الذي وضع في مرحلة تأسيس السلطة الجديدة في المدينة يعد من أشد النظم المالية صرامة ودقة التي عرفتها المجتمعات قديما وحديثا، طبعا الأوضاع قد تغيرت بين الأمس واليوم، ولكن هنالك قيم استمرت ثابتة، ملاحظا أن هذه الصرامة مرتبطة بنظرة الإسلام للمصلحة العامة، فهو رحيم وغفور فيما يرتكبه الإنسان من ذنوب وأخطاء في علاقته بربه، ولكنه حاسم وصارم فيما يمس المصلحة العامة، وهي مصالح الناس والأوطان.
إن أبرز الانتفاضات الشعبية التي عرفها صدر الإسلام حدثت نتيجة تجاوز القيم الإسلامية في التصرف في أموال المسلمين، وقد وضع أسسها الخليفتان : أبو بكر، وعمر (ر.ع.). اندلعت الانتفاضة الأولى في المدينة لما خالف عثمان بن عفان (ر.ع.) سيرة صاحبيه في أمرين اثنين : تولية أبناء عشيرته بني أمية مناصب قيادية في الدولة الناشئة، ولكن بالخصوص تصرفه في أموال «بيت المال»، وكأنها أمواله الخاصة، وقد مثل ذلك الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وجعلت سكان المدينة، وما انضم إليهم من جماهير الأمصار الجديدة : الكوفة، والبصرة، والفسفاط تحاصره أربعين يوما، وتمنع عليه الماء، ثم اقتحمت بيته، واغتالته والمصحف بين يديه !
• قال صاحبي : ما هي أبرز القيم التي حاول أبو بكر، وعمر ( ر.ع.) تأسيس السياسة المالية عليها في الدولة الناشئة ؟ • قلت : هذه الفسحة لا تسمح بالإطناب في هذا الموضوع، وإنما أكتفي بذكر الروايتين التاليتين : • لما تولى أبو بكر الخلافة (ر.ع.) جمع الناس في المسجد، وقال لهم : كنت أذهب إلى السوق فأبيع وأشتري، وأنفق على عيالي، واليوم قد شغلتني شؤونكم، فما يحق لي أخذه من بيت المال ؟
قالوا له ما يسد حاجتك لا نقصان ولا زيادة، ولما حضرته الوفاة أوصى أهله أن يردوا المبلغ الذي أخذه من بيت المال فقال له عمر : قد أتعبت من سيأتي بعدك. طرح عمر نفس الموضوع على الصحابة لما تولى إمارة المؤمنين، وجاء جوابهم شبيها بما قالوا لسلفه، فأخذ درهمين يوميا من بيت المال، ولما دنا الأجل طلب من ابنه عبد الله أن يرد المبلغ إلى بيت المال. وتبدلت الأحوال بعد ذلك فأقطعت الاقطاعات بغير وجه شرعي، وأغدقت الأموال فطالب المسلمون الجدد بحقوقهم، وبخاصة في توزيع الأراضي الخصبة، وقد فتحوها عنوة، ومنها أراضي السواد، وهي الأراضي الخصبة التي تسقى من نهري العراق : دجلة والفرات فجاء الجواب من الحكام الجدد : «إنما هذا السواد بستان لقريش»! كم من ثورة شعبية تحولت ثمارها وأزهارها بساتين للقرشيين الجدد. المشكلة أن ذلك يتم باسم الإسلام بالأمس واليوم !!