سنتان بعد قيام الثورة يسود شعور عام بأنها لم تكتمل وأنها لم تحقق أهدافها في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. لكن الانتقال الديمقراطي يسير في النهج الصحيح والكلمة صارت حرّة. لا شك ان كثيرا منا لا يزال يذكر تلك النكتة التي ظهرت في منتصف التسعينات من القرن الماضي والتي تحكي قصة كلب قرّر أن يهاجر إلى الجزائر فاعترضه على الحدود كلب جزائري كانت تبدو عليه علامات التعب والجوع والهزال. سأل الكلب الجزائري الكلب التونسي عن الأسباب التي تدفعه إلى الهجرة قائلا في لهجة المستغرب: «كيف تترك بلدا عمّ فيه الرخاء والاستقرار واستتب فيه الأمن والنظام لتستبدله ببلد مضطرب الأحوال تفشى فيه الفقر والنقص؟». فأجاب الكلب التونسي دون تردّد: «أعلم كل ذلك لكني اشتقت إلى النباح فجئت إلى بلدكم لأنبح بكل حرية»..
لفهم مغازي هذه النكتة لا بد من التذكير بسياقها التاريخي حيث كانت الجزائر زمنئذن قد خرجت من مأساة حرب أهلية دامت عشر سنوات وحصدت أرواح الآلاف من أبناء الجزائر وعطلت مسيرة نموّها وأصابتها بالانكماش لكنها مكّنتها من كسب لا يقوّم بثمن: إنها حرية التعبير. في ذلك الوقت كانت تونس تسجل نتائج اقتصادية واجتماعية ملفتة لكنها كانت تختنق تحت غطاء رصاصي وكان المبدأ الوحيد المسموح به هو «استهلك واسكت!».
الكلمة تحررت
عامان بعد ثورة 14 جانفي أصبح التونسي ينعم بالحرية وهي أغلى النعم. الحرية حريات وأولها عدّا وقيمة هي حرية التعبير. لقد تحررت الكلمة في الشارع وفي مكان العمل، في الريف وفي المدينة، وتحررت خصوصا في وسائل الاعلام وتولّد عن ذلك رأي عام وطني لا يزال هشّا وسهل الانسياق لكنه أصبح واقعا ملموسا بدأ يشكل قوة نافذة لا يمكن لأي سلطة حاكمة أن تتجاهلها أو تجابهها لأنها تمثل السلطة المضادة التي لا يمكن أن نتصور مستقبل حُكم لهذه البلاد دون أن تقوم هذه السلطة المضادة بوظيفتها في توفير حق نقد السلطة الحاكمة والمحاسبة الدائمة لها.
لقد عهدنا منذ اعتلاء حكومة الترويكا كرسي الحكم انتقادا شبه يومي لوسائل الاعلام وأحيانا إدانة لها بعد اتهامها بصبّ الزيت على النار والحث على التوتر والاحتقان وهذا خطأ لأن الاحتقان المزعوم والتوتر إنما يدلان على اختلاف في الرؤى وبالنتيجة على مجابهة سياسية هي في الأخير تأكيد لبروز قوى مضادة. في المشهد السياسي الوطني وهنا يكمن الفرق الجوهري مع نظام بن علي الذي لم يترك مكانا لهذه القوى المضادة ومات بسبب ذلك.
إن تحرير الكلمة سواء كان ذلك في وسائل الاعلام بأنواعها أو في الفنون الحية من رسم وموسيقى ومسرح أو في الشارع والمقهى هو الضامن لبناء مجتمع الديمقراطية الذي قامت من أجله الثورة وحتى وإن صاحب تحرر الكلمة بعض الانفلاتات أو الانزلاقات فإن الحل يكمن في مواصلة التفاؤل بوعي التونسي وقدرته على التعديل والتوازن.
وبالتوازي مع تحرر الكلمة فإن الثورة أحدثت تغييرا في المشهد السياسي الذي أصبح يتميز بتعددية حقيقية صارت تشكل أرضية الانتقال الديمقراطي الذي لأن اعترته عديد الهزات وأثقلت نسقه الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية فإنه سائر إلى الانجاز.
إحساس بالاحباط
عامان بعد الثورة ورغم تحرر الكلمة والتنظّم فإن الاحساس العام أصبحت تغلب عليه خيبة أمل. لماذا؟ لأن الانتظارات كانت أكثر مما تحقق إلى حدّ اليوم، ولأن الناس أقرنوا الثورة بتحسن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية لكن أوضاعهم زادت سوءا فكبر عندهم الشعور بإحباط عبروا عنه بطرق أحيانا سلمية وأحيانا أخرى عنيفة لم تزدها إلا تأزما.
إلى جانب الشعور بالإحباط هناك شعور آخر لا يقل خطرا على مستقبل الثورة وهو الاحساس بأنها قد وقع افتكاكها من أهلها الحقيقيين الذين كانوا في المواجهة يوم قامت الثورة ومنهم خصوصا الشباب العاطل من حاملي الشهائد العليا وسكان بعض الجهات المحرومة.
غير أنه وإذا اعتبرنا أن الهدف الأول من الثورة هو بناء الديمقراطية فإن اللعبة الديمقراطية هي التي اختارت الاسلاميين النهضويين لتحقيق الانتقال الديمقراطي حتى وإن لم يكونوا في الصفوف الأولى يوم خرج الناس ثائرين. ولقد مكّن اعتلاء النهضة لكرسي السلطة من شيئين إجابيين سوف يكون لهما الأثر العام على مستقبل الديمقراطية في بلادنا.
الشيء الأول: يتمثل في تحول النهضة بفضل تجربة الحكم من حركة احتجاج ومعارضة في أصلها إلى حزب حكم وتسيير بما يقتضيه ذلك من تعديل في الخطاب ودربة على التنازل والتعايش مع أحزاب وتنظيمات لا تقاسمها بالضرورة اختياراتها الفكرية.
أما الشيء الثاني: والأهم فيتعلق بالمرور بالحكم من الشرعية الثورية إلى الشرعية الانتخابية، ويحسب هنا للنهضة أنها قلبت ضعف غيابها عند قيام الثورة إلى حضور نشيط على الساحة السياسية ودفع إلى اللعبة الانتخابية كانت هي أولى المستفيدين منه.
من منطق الثورة إلى منطق الديمقراطية
عامان بعد الثورة بدأ منطق الديمقراطية المعتمد على قوة شرعية الصناديق يأخذ السبق على منطق الثورة المتدثر بشرعية التضحية والشهادة. لكن النهضة المستفيد الأول من الثورة مثلها مثل باقي القوى الإسلامية في البلدان التي عرفت الربيع العربي، يعترضها عائقان أساسيان لا بد لها من التغلب عليهما لتحقيق تحولها نهائيا إلى حزب للحكم يساهم بفاعلية في تحقيق الانتقال الديمقراطي وبلوغ أهداف الثورة.
يتمثل العائق الأول في ظهور قوى متشددة لم تقرأ لها حسابا مثل التنظيمات السلفية التي لا تعترف في جلها باللعبة الديمقراطية والتي يتوجب على النهضة ترويضها وإدماجها ضمن العملية الانتخابية.
وأما العائق الثاني فيكمن في الأزمة الاقتصادية التي تقوي هذا الشعور بالاحباط واليأس لدى الشرائح الشعبية وخاصة منها الشابة، وهو الشعور الذي يغذي التوتر والاحتقان ويهدد البلاد بإدراجها في الدائرة المفرغة للثورة والثورة المضادة.. إلى ما لا نهاية.
وقد يكون من العاجل المتأكد أن يقع الاسراع بتحديد موعد الانتخابات والاعلان عن الدستور حتى نتهيأ للخروج من هذه الدائرة المفرغة التي تهدد الثورة نفسها ومكاسبها الكثيرة وعلى رأسها حرية الكلمة التي لا تقدر بثمن لأنها المنطلق والأساس لكل مشروع ديمقراطي.