على عكس موجة الطقس القارس والبارد التي تضرب لبنان ومنطقة الشرق الأوسط حاليا , يعيش لبنان فوق جمرات من الأزمات والمعضلات المتوالدة والمتراكمة يطال أوارها المشهد السياسي المتأزم أصلا وتصل السنتها الملتهبة إلى أسس العيش المشترك بين الطوائف اللبنانية المتعددة. تقول الجغرافيا عندما تصاب الشام بالزكام يصاب لبنان بالحمى, ويقول التاريخ إن لبنان وسوريا شعب واحد في دولتين, وتؤكد شواهد السياسة أن المعادلة بين دمشقوبيروت قائمة على أساس التأثير والتأثير المضاد.
ذلك أن لغة الطائفية السياسية والدينية الرائجة في سوريا حاليا وجدت لها صدى كبيرا في لبنان وفي طرابلس بالتحديد التي انقسمت وفق المشهد السياسي السوري إلى قسمين واحد في حي التبانة مناصر للمعارضة السورية المسلحة وآخر في جبل محسن داعم للنظام السوري ..
ومع التقسيم الاثني لأرض واحدة ولشعب واحد ولمحافظة واحدة خرست الألسن السياسية لتتحدث مطولا فوهات البنادق في ظل دولة ضعيفة تسعى – أو هكذا يبدو - إلى النأي بنفسها عن الملفات والاستحقاقات الداخلية قبل الازمات الخارجية ... وفي ظل أطراف سياسية من المعارضة ومن المشاركة في حكومة نحيب ميقاتي تحدد خياراتها وخطابها وأدائها وفق آخر المستجدات السياسية والعسكرية والأمنية في سوريا.
وذلك أيضا أن الأزمة المشتعلة في سوريا والتي قاربت العامين من العمر وبعد أن حولت مئات الآلاف من السوريين إلى نازحين داخل وطنهم صيرت مئات الآلاف الآخرين إلى لاجئين تائهين مشردين بين مخيمات اللجوء في الأردن والعراق وتركيا ولبنان أيضا.
في شارع الحمراء الشريان الرئيسي للعاصمة بيروت , وقرب جسر الكولا قلب بيروت النابض , وعلى ضفاف صخرة الروشه جوهر الكمال والجمال في لبنان وأمام المساجد والكنائس ودور العبادة آخر حصون التجانس الاجتماعي اللبناني , تجدهم مجموعات مجموعات يتحدثون عن أزمة خانقة حولت بلادا كان يتغنى بقدرته وقدرة شعبه على احتضان ملايين اللاجئين من العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين طيلة ردح من الزمان طويل , إلى بلد يهجره الإنسان بعد أن هجره الأمان. أينما قلبت وجهك في بيروت تصادفك وجوه سورية وتخاطبك بألسن دمشقية تقول بألم وامل الله يستر البلد.
وعلى الرغم من إعلان العديد من اللاجئين السوريين لخيارهم السياسي الذي تجسد على شكل أعلام وشعارات مرفوعة هنا أو هناك في أصقاع لبنان شمالا وجنوبا فإن الغالبية – وكما يؤكدون هم ذاتهم – لا تزال صامتة وترفض التعليق أو الإعلان عن موقفها.
وفي مقابل صمت هؤلاء , أبى لبنان إلا ان يطلق صيحة فزع وان يدق ناقوس الخطر حيال أزمة اللاجئين السوريين والفلسطينيين المتقاطرين على البلاد وباطراد كما يقول المسؤولون الرسميون اللبنانيون ما لم يسع المجتمع الدولي برمته إلى تسوية سياسية في الشام.
يخشى لبنان الدولة من تفاقم المأساة الإنسانية لا سيما وأن الموارد قليلة مشيرا من طرف خفي إلى أن التصادم السياسي والعسكري بين الفرقاء السوريين واللبنانيين يطل برأسه في أماكن عديدة وكثيرة.
كما يخشى لبنان الحكومة من تزايد عدد اللاجئين السوريين بشكل دراماتيكي خلال الأشهر القادمة خاصة وأن وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبوفاعور توقع تدفق 40 ألف نازح شهريا سوف ينضافون إلى 200 الف لاجئ مسجل.
لبنان الأمن الاجتماعي بدوره يعبر عن توجسه من الأزمة التي وإن كانت في حقيقتها معضلة إنسانية بحتة فإن الحديث المتواتر والتسريبات الأخيرة للقيادي في تيار المستقبل عقاب صقر تثبت بأن تسليحا وتدريبا وتحشيدا وتجنيدا دخل على خط الأزمة الإنسانية.
لبنان المحاصصة الطائفية أو بعبارة أخرى لبنان اتفاق الطائف أبدى قلقه هو ايضا ومعه لبنان الأقليات المسيحية دون أن ننسى لبنان المخيمات الفلسطينية التي شهدت دخول أكثر من 10 آلاف لاجئ فلسطيني نزحوا من مخيم اليرموك ... والتي أكدت تعرض الفلسطينيين الوالجين إلى لبنان ل«نكبة جديدة».
إزاء كل ما سبق , لن ينتظر لبنان القلق، أو هكذا يؤكد مراقبون ومتابعون للشأن الللبناني والسوري زيارة الوفود العربية إلى مخيمات اللاجئين في مدن الجوار قبل أن ترفع تقاريرها إلى قمة الكويت للمانحين ..نهاية الشهر الجاري.
فلبنان لا يريد ترقيعا للإشكال أو تخفيفا من وطأة وجع قد يضرب البلاد في الصميم , ولا يريد ايضا تسويفا أو تسويقا لتكهنات بحدوث تغيير دراماتيكي في المشهد السوري .. + يدرك اللبنانيون أن الحل في لبنان لا يكون إلا من خلال حل مشكلة الشام , فعندما ترتاح سوريا ينتفس لبنان الصعداء , وطالما أن هناك فيتو إقليمي ودولي لتسوية الأزمة وفق بيان جينيف فإن لبنان الاقتصاد والسلم الأهلي سيبقى ينزف.
وإلى حين الحسم السياسي أو الإغاثي لمأساة اللاجئين السوريين في لبنان تبقى الأزمة على شاكلة حقول ألغام كارثية قد تنفجر في أي وقت وضد أي أحد ...