الساعة الخامسة والربع من مساء الاثنين، لم يبق أمام قصر العدالة بباب بنات الا بعض الاشخاص ينتظرون صدور أحكام لأقاربهم وقلة من أعوان الأمن وشاحنة عسكرية وسط سياج من الأسلاك الشائكة. كان الباب الرئيسي من جهة شارع باب بنات مغلقا فيما كان الباب الداخلي شبه مغلق، سلكت الطريق بين المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف فوجدت الباب الأزرق من جهة شارع 9 أفريل مفتوحا الى النصف دفعته بهدوء فانفتح بسهولة محدثا صوت الاحتكاك بين حديد الأقفال التي لم تتم صيانتها منذ القرن الماضي.
استقبلني على الجهة اليسرى المدرج المؤدي الى الطابقين الفوقيين وكان تحت ذلك المدرج كرسي عادة ما يجلس عليه عون أمن. كان من الجلد أو على الأقل يبدو كذلك وقد بدا عليه ثقب، يشير الى عمره وكان عادة عون أمن يستعمله لكن يبدو انه غادر المكان حديثا فجريدته التي انتشرت صفحاتها بفوضى وما تبقى غير قليل من الخبز مازالت تشهد على الرحلة.
بعد المدرج بأقل من متر، كان رواق مكاتب بعض القضاة قليل الإنارة الضوء فيه يقرب الى الرمادي لا حركة في الرواق الطويل جدّا، بعض الخطوات كافية لتسمع رجع صداها على الجدران.
تجوّلت بين أطرافه لا حياة لمن تنادي، كانت رائحة العشية ممزوجة برائحة الرطوبة المنبعثة من المراحيض التحتية المحاذية لسراديب الايقاف.
كنت أمشي وسط المكاتب وبين الأروقة في مبنى قصر العدالة بتونس بمفردي، لم أجد من أتوجه اليه بالسؤال في أحد الممرات المتشعبة بدأت أشعر بالخوف والرهبة. لعلي أخطأت المكان ربما أنا في مبنى مهجور هل حكاية الأرواح الشريرة حقيقية ماذا لو اعترضتني إحداها..
تأكدت أنني في مبنى قصر العدالة، رمز الدولة والنظام عندما وجدت نفسي أمام مكتب أحد القضاة الذين أعرفهم، فهو رجل فاضل على خلق نزيه ويحب مهنته. أسرعت نحو باب مكتبه فطرقته لكنه لم يردّ.. طرقت ثانية وثالثة، فتراجعت الى الخلف وقلت لعله غادر المحكمة لابدّ ان أغادر.
لم أتجاوز الخمسة أمتار فإذا بي أستمتع الى صوت احتكاك أقفال الباب فالتفت فإذا بالسيد الرئيس يفتحه بلطف وحذر ليتطلّع الى الخارج ويستجلي الأمر. عندما رآني ناداني وأذن لي بالدخول.
وجدته منهكا وسط عدد لا متناه من الملفات الحمراء والخضراء والملوّنة ومنها ما هو مربوط بحبل، كان مكتبه ضيقا ولكن الاضاءة فيه جيدة اذ استطعت ان أميّز بين الجدران والطاولة فخارج المكتب كان المكان شبه مظلم فالإنارة ضعيفة جدّا.
سيدي الرئيس، لماذا تقفل باب مكتبك من الداخل؟
سألته، فقال يا أخي، من يدري لعل أحدهم يقتحم المكان حقيقة لسنا في أمان والمكان غير آمن. فالقضاة مهددون ولا يمكنهم اتخاذ قرار في بعض الأحيان في مثل هذه الظروف لذلك يضطرّون أحيانا الى تأخير اتخاذ اي قرار حتى يكون الإطار ملائما وآمنا، فالصبح أكثر أمان من المساء.
تحدثنا عن العديد من المواضيع، وكان منزعجا جدّا من ظروف العمل وعدد الملفات الكبير المطالب بالحسم فيها واستقلالية مهنته.. قال لي، انه سوف ينهي النظر في بعض الوثائق وانه سوف يغادر المكان قبل السادسة وحدثني عن الاعتداءات على بعض القضاة خاصة بعد الثورة، وختم بالقول إن المحاكم لم تعد في أمان وأصبحت مهددة.
استأذنت منه بالخروج، وكان بصدد جمع أشيائه وأوراقه. سألته أثناء مغادرة مكتبه هل أغلق الباب فأجابني بضحكة غير مفهومة. نزلت الى الطابق السفلي، وأردت الاتصال بأحد الاصدقاء فلم يكن ذلك متاحا لأن «الريزو» (شبكة الاتصال) لا يعترف بالمحكمة. عاودت الامر أكثر من مرّة، لكن دون فائدة.
رجعت نحو الرواق الطويل، كان وقع الصمت الرهيب ثقيلا بدأت الإنارة الرمادية تتجه نحو الظلام لا أحد يمكنه المغامرة وسط تلك البناية الكبيرة المهجورة. خرجت من باب شارع 9 أفريل، فاستقبلني الفضاء الخارجي بالضوضاء واكتظاظ السيارات وأصوات منبهاتها التي لا تنتهي كنت مطمئنا فالأرواح الشريرة لا تسكن الشوارع المزدحمة، لعلها بقيت في البناية التي تركتها ورائي.
اتجهت نحو النهج الرابط بين قصر العدالة ووزارة التربية، وعدت أمام الباب الرئيسي من جهة باب بنات، كان عدد من أعوان الأمن يقفون بزيهم الشتوي وسط البهو الخارجي فيما لا تزال الشاحنة العسكرية مرابطة في نفس المكان. كانت الساعة تشير الى السادسة مساء، البلدية لم تشعل أضواءها بعد.