قليل هم أولئك الذين قاتلوا ويقاتلون في الخطوط الأمامية في معارك الأمة. فمنهم من استشهد ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. وأحسب أن شيخنا الموقر الصنديد الهمام صاحب الباع الطويل في علوم المعاني والبيان والبديع، شهيد العلم والوطن المرحوم عبد العزير بالأدب العكرمي، الذي استقبلت رفاته الطاهرة هذه الأيام جماهير غفيرة لتواريها الثرى بمسقط رأسه يوم 06012013.
أحسب ان هذا البطل المقدام هو أحد هذه القلة القليلة المشهود لها تاريخيا بالصرامة في نصرة الحق وتفدية الأوطان... وقد يكون من لازم الفائدة في هذا الصدد التذكير بالحركة التصحيحية التي ندب لها نفسه الشيخ المرحوم سليل الزيتونة المباركة سنة 1962 بمعية رفاقه الشهداء الأبرار أصحاب الهمم العالية والعزمات الصادقة منهم على وجه الخصوص قائد الثورة المسلحة الأزهر الشريطي والهادي القفصي أكبر مهندسي عصره، والشيخ الرحموني نصير الطلبة الزيتونيين وأحد ابائهم الروحانيين في منظور من قال :
من علم الناس كان خير أب ذاك أبو الروح لا أبو النطف
ومنهم كذلك الضابط البارز البنبلي وكبيّر المحرزي وآخرون....
وكان الباعث على هذه الحركة التصحيحية المبكرة في تاريخ تونس المعاصر هو إدراك هؤلاء الحماة الأباة الكماة بأن الزعيم الحبيب بورقيبة قد استفرد بحكم تونس بمنزعه الغربي المتطاول على كل ماهو عربي وأن مشينته في الإقتداء بالغرب في كل شيء سيجعل من تونس لا محالة مجرد محمية ملتزمة بالوفاء لفرنسا في التوجه السياسي والثقافي والاجتماعي والحضاري وغيره.
ولم يخف بورقيبة هذه الحقيقة فبادر وهو على هرم السلطة ومنذ السنوات الأولى بخلع تونس عن محيطها العربي الاسلامي ودخل في مشاحنات بل حملات تشهيرية تذاع على الهواء ضد التيارات العروبية آنذاك ولم يتأخر كثيرا حتى أحكم اغلاق جامع الزيتونة وعطل دروسه نهائيا واجتهد في الحاق الاذى بطلابه وشيوخه.
والغى المحاكم الشرعية ومنظومة الأوقاف (الحبس) وازاح اللغة العربية بعيدا عن الاستخدام الاداري والعلمي واستعاض عنها باللسان الفرنسي حتى ازدهرت اللغة الفرنسية وصار غير المتحدثين بها قليلا مما حدا بالبعض الى المناداة بمحو الأمية الابجدية في هذه اللغة وصار الزيتونيون بهذا التمشي غرباء في وطنهم على النحو الذي أشار اليه المتنبي في شعب بوان حين قال :
مغاني الشعب طيبا في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليدو واللسان
يضاف إلى هذا تلك الحرب الضروس القذرة التي أعلنها (المجاهد الأكبر) جهارا نهارا وعلى الملإ ورؤوس الاشهاد، على الدين الاسلامي حين دعا بعنجهية واستهتار صارخين الشعب الى أفطار شهر الصيام وتعطيل بعض الاحكام الشرعية وعقد تلك المقارنات السخيفة بينه وبين النبي محمد ے وبين السيدة وسيلة زوجته والسيد عائشة الصديقة أم المؤمنين رضي الله عنها في ما نسب اليهما من اتهمامات باطلة.
وفي برنامج إذاعي تحت عنوان (بورقيبة يروي للتاريخ) من التفاهات والسخافات ما يندى له الجبين وهذه الاسفافات وتلك التهجمات البورقيبية على الثوابت والمقدسات كانت بلا شك وراء تلكم الانتقاضات أو الانقلابات التي عرفتها البلاد التونسية منذ تخلي الاستعمار السافر عنها إلى اليوم.
ونسمع هذه الأيام أحاديث كثيرة تشيد بعبقرية بورقيبة في الحكم والتسيير والسلوك الذاتي وخاصة في نظافة اليد وعدم التحوز بأي شيء...ونسي هؤلاء الهارفون بما لا يعرفون أن بورقيبة بحكم نرجسيته المتناهية المهيمنة على شخصيته وقواه العقلية كان يعتقد جازما أن تونس أرضا وشعبا هي ملك خالص له لا ينازعه فيه أحد، طبقا للمثل السائر : (العبد وما ملكت يداه لسيده ومولاه) فليس بورقيبة اذن وهو سيد الجميع في حاجة أن يستودع الأموال في الخارج وان يشيّد به القصور المنيفة ليتسلل اليها لواذا عند الشعور بالخطر.