كيف تمّ التخطيط للإضراب العام الذي نُفّذ في تونس يوم 26 جانفي 1978 وكيف تعاملت السلطة مع النقابيين في ذلك الوقت؟ ما هي خلفيات الإضراب ومن أين بدأت الحكاية؟ أحد القياديين في الاتحاد العام التونسي للشغل في ذلك الوقت يروي ل «الشروق» كامل التفاصيل. التحركات النقابية تبدأ في معظمها من المدن الكبرى... ومدينة سوسة كانت شاهدة على عدّة محطات تاريخية في العمل النقابي والعمل السياسي وكانت من أكثر المدن التي احتضنت اجتماعات القيادات النقابية من فرحات حشاد إلى الحبيب عاشور وغيرهم... وكانت سوسة منطلقا لعدّة تحركات واحتجاجات أقرها اتحاد الشغل. شهادة تاريخية عضو المكتب التنفيذي المكلف بالسياحة في الاتحاد العام التونسي للشغل عام 1977 السيد محمّد بن عائشة كان شاهد عيان على كل ما حصل عشية إضراب 26 جانفي 1978 وقد تولّى توثيق تلك المرحلة في مخطوطات وبوثائق رسمية صادرة عن محكمة أمن الدولة (التي حاكمت النقابيين المشاركين في الإضراب) وعن الاتحاد العام التونسي للشغل وعن لجنة تنسيق الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم آنذاك...«الشروق» التقت السيد محمّد بن عائشة وهو أصيل مدينة القلعة الكبرى من ولاية سوسة وكان من بين 101 من النقابيين الذين تم القبض عليهم يوم 26 جانفي وأمضوا نحو سنة في السجن دون محاكمة. قصة الإضراب العام بدأت حسب السيد محمد بن عائشة بعد التهديد باغتيال أمين عام اتحاد الشغل آنذاك الحبيب عاشور، قائلا إنّ «المدعو ع.و أجهر بالتهديد باغتيال عاشور في جلسة بنزل القصر بسوسة حضر فيها أحد النقابيين وهو سعد البلومي، أصيل مدينة النفيضة من ولاية سوسة، وقد اتصل سعد البلومي بقيادة الاتحاد لإبلاغها بالمخطط قبل أن يلتقي الحبيب عاشور في العاصمة. التهديد جاء بسبب ما رأى صاحب ذلك النزل أنه «تمرد» من الشغالين المطالبين بحقوقهم. ويضيف محدثنا «في الأثناء أصبحت لجنة تنسيق الحزب بسوسة تهدد النقابيين وبناء على تلك التهديدات اجتمعت الهيئة الإدارية الموسعة للاتحاد بسوسة ووقع إقرار الإضراب العام في كامل ولاية سوسة يوم 9 نوفمبر 1977.» وتابع بن عائشة روايته بالقول «يوم الإضراب خرج عشرات الآلاف من الناس من دار الاتحاد إلى نزل القصر وفي عصر ذلك اليوم قام عدد من أعضاء الاتحاد بجولة في المدينة العتيقة ولاحظوا أن الميليشيات الحزبية كانت تعتدي على المحلات وتكسر وتدمّر في غياب تام للأمن، فعقدت قيادة الاتحاد الجهوي بسوسة اجتماعا عاجلا في الساعة الخامسة إلا الربع وأصدرت قرارا بوقف الإضراب العام في الساعة الخامسة مراعاة لمصالح الناس وخوفا من أن تمتدّ حملة التدمير وتشمل الممتلكات العامة والخاصة ويُحسب كلّ ذلك على الاتحاد».ويواصل بن عائشة روايته قائلا «توليت أنا والصادق قديسة إبلاغ قرار وقف الإضراب إلى الولاية وقد وجدنا الوالي عند البوابة وما إن تسلّم الرسالة حتى كلّف قوات الأمن بالنزول إلى المدينة العتيقة ووقف عمليات التخريب خاصة أنّ الأنباء التي وصلتنا آنذاك تفيد باعتزام المخربين الاعتداء على المصاغة (سوق الذهب) وقد كانت التعليمات صدرت لقوات الأمن في البداية بعدم التدخّل حتى يتم إلصاق تهمة التخريب بمناضلي الاتحاد». توتر... فإضراب عام ورغم وقف الإضراب فقد استمر التوتر وتواصلت الخلافات بين لجنة تنسيق الحزب الاشتراكي الدستوري بسوسة وقيادة الاتحاد مما استدعى انعقاد المجلس القومي لاتحاد الشغل في نزل أميلكار بتونس العاصمة أيام 8 و9 و10 جانفي 1978 ليتم إقرار الإضراب العام ليوم الخميس 26 جانفي 1978. وأضاف بن عائشة «بدأت التحضيرات لتنفيذ الإضراب العام وقدم خيار الدين الصالحي وحسين بن قدور (عضوا المكتب التنفيذي للاتحاد) إلى سوسة حيث عقدا اجتماعا بمقر دار الاتحاد وتم إعلام الإطارات النقابية في ولاية سوسة بإقرار الإضراب العام». ويروي النقابي محمد بن عائشة تفاصيل ذلك اليوم بالقول «مع منتصف ليل الخميس 26 جانفي 1978 كان الجيش الوطني والحرس الوطني والأمن بأصنافه وميليشيات الحزب تحاصر مقر الاتحاد الجهوي للشغل بسوسة حيث كانت القيادات النقابية هناك وقام الجيش والأمن بتنبيهنا مخاطبين الكاتب العام الجهوي آنذاك الحبيب عاشور وطلبوا منّا النزول.. حذرونا من اقتحام المقر إن لم نلبّ نداءهم بالنزول وهو ما كان.. نزلنا وأمرونا بوضع أيدينا فوق رؤوسنا ثم انهالوا علينا ضربا وسبّا وشتما ثم اقتادونا إلى منطقة الأمن ولحقوا بنا إلى داخل «السيلونات» ليواصلوا الاعتداء علينا وضربنا ضربا مبرحا حتى أغمي على البعض منّا وقد كان من بيننا 10 من النساء والفتيات من النقابيين. ويتابع النقابي قوله «إنّ ما حدث في البهو الكبير لإدارة الأمن بسوسة إثر إلقاء القبض علينا يُعدّ من أبشع مظاهر الإرهاب والتسلط متجسمين في التنكيل بشكليه المادي والمعنوي... وبعد ان أُمرنا برفع الأيادي انهالوا علينا لكما وركلا ورفسا وضربا مبرحا بالعصي ووخزا في مؤخراتنا... اعتداءات وحشية وممّا يذكره النقابي محمد بن عائشة من تفاصيل تلك الليلة «وقع تمزيق صور الزعيم الخالد فرحات حشاد ورفسها ونعته بشتى النعوت البذيئة وثلب المنظمة الشغيلة فضلا عن تعرض النقابيات العشر اللاتي كنّ معنا في الإيقاف إلى أشكال قاسية من التعذيب تستهدف أساسا شرفهن، وقد دامت تلك الحالة حتى ساعة مبكرة من صباح الجمعة 27 جانفي 1978 في جو يسوده الرعب والفزع الشديد من أعوان مدججين بالأسلحة من بنادق ورشاشات وغيرها». ويضيف بن عائشة روايته «لقد انتُزعت منا الأبحاث انتزاعا حسب توجيه مسبق إذ كان الواحد منا يُدعى إلى التحقيق في ساعة متأخرة من الليل أو في ساعة مبكرة من الصباح وما إن يخرج من الزنزانة حتى يتلقاه من الباب 3 أعوان ينهالون عليه ضربا ويشبعونه شتما وكلاما بذيئا يتنافى وأبسط المبادئ الاخلاقية والإنسانية فيصل إلى مكتب الباحث منهوك القوى ويقف هناك مرتجفا وسط مجموعة من الجلادين الذين يبادرونه باللكمات والشتائم وسب الجلالة». وحسب لائحة الاتهام الصادرة عن محكمة أمن الدولة آنذاك بحق النقابيين ال 101 فإن التهم الموجهة إليهم هي «الاعتداء على حرية الشغل ومنع الغير من العمل والمشاركة في الإضراب والإضرار بملك الغير والتعدي على حرية الخدمة والتحريض على التجمهر ومواصلة الإضراب غير الشرعي والمشاركة في مظاهرة عدائية بالطريق العام والأماكن العمومية مع التسلح ومسك سلاح ومستودع للأسلحة بدون رخصة والتهيئة للاعتداء على الأمن العام وإثارة الهرج وحمل المواطنين على مهاجمة بعضهم بعضا والاعتداء على القوة العامة المتصدية لمنع وقوع ذلك». ويواصل السيد محمد بن عائشة روايته قائلا «غادرنا السجن المدني 9 أفريل بالعاصمة يوم 8 نوفمبر 1978 وأقر مدير السجن خروجنا بعد حفظ التهمة لعدم كفاية الحجة.. ولكن يوم مغادرتنا طلبوا منّا طلب العفو من رئيس الجمهورية لكننا رفضنا ذلك لأن المفترض أن يكون العكس وتطلب منا السلطات الاعتذار عن تلك الأشهر من العذاب في السجن، وتمسكنا بموقفنا وقلنا لهم إننا مستعدون للعودة إلى السجن على أن نطلب العفو وطالبنا بتوضيحات حول أسباب الاعتداء علينا وعلى الاتحاد».