للغيمة أو القصيدة تلاوينها وأقنعتها ولها أحوالها ورؤاها وهواجسها ومرجعياتها الفكريّة. لقد تواتر معجم مخصوص في النصّ يشير ويوحي إلى الأقنعة التي تتزيّا بها الغيمة فهي وجه الحبيب وهي فجر مشبوه وهي ستائر وأحلام ووجوه وفصول . ثمّ هي أمكنة وأزمنة متداخلة وحالات من القحط والغرق في الأوهام والأحلام والمواسم الموحشة وغير ذلك من المفردات...
للغيمة في هذه المجموعة مراجع غربيّة وشرقيّة وأبعادا مكانيّة منها الشّمال ثمّ الجنوب بأعجاز نخله وصحاريه وزمنه الموحش.يقول الشّاعر:
«...لكنّ الغيمةترجع ثانية ...تتقنّع في صبح يقيني تتربّع في ليل ظنونيتتلوّن صيفا وربيعا ...»إلى أن يقول :...يا قلمي الطيب كن حذرافالغيمة وجه مشبوه ...يسّاقط وجهه أقنعة وستائر خلف الأسوار ..للغيمة وجه شرقيّللغيمة وجه غربيّيغويك شمالاإن تمضييغويك جنوبا ... لا تمض »حتّى يأتي إلى قول :...ما عاد لأرضك فوق الأرض مكان النّخل الواقف في صحرائك أمسىأعمدة من خشبخاوية تنهشها الأحلام.كانت تغرق في الأوهامكنت وكان الحلم دخانومواسم موحشةورمادا في كلّ زمان...
يحصد الشّاعر بذرات غيمته ظافرا بكثير من الأوهام والأحلام والدّخان. بل بالرّماد كعنوان للهيب والجمر الذي انطفأ لحظة القول. فهذه الغيمة العجيبة تتزيّا في صيغ متنوّعة وتنتهي نهاية طائر العنقاء.
يحترق ويحيا مجدّدا من بقايا رماده. وهكذا حال الشّاعر، يسبح في تهاويمه ورؤاه الشّعريّة محلّقا في سماوات بعيدة بشعر مسحور يقع في مدارات زمن انسيابيّ مطلق حتّى إذا نزل قائله إلى أرض الواقع وارتطم بالحقيقة احترق واستحال إلى رماد.
5) الغيمة مضامين شعريّة:في مشاهد أخرى تأخذ الغيمة رمز القلم أو رمز القصيدة الشّعريّة من حيث المضمون .فهو( أي القلم ) همّ وطنيّ . يقول الشّاعر:« ...قلمي يا هذا الوطن الغابرفي وطني ...إنّي قاسمتك حزن الأرضوحزن الواحة والمحرابومضيت لأدفن تاريخك في مدخل غابْ...» وفي طور آخر يكون للغيمة أو القلم عالمه الأرحب وهو الشّأن العربيّ العامّ الذي يحضر بمعجم طافح بالسّواد.إذ ترد بالقصيدة ألفاظ من قبيل الحزن والدّفن والسّراب والجنون والأقدار التّائهة والقتل والقواميس الكاذبة والموت والعراء والبطولات المزعومة.يقول محمد شكري ميعادي في مجموعته:«...كم موتا يوغل في جسدي ؟أتركه.. أخرج عن جسديأتعرّىأتقمّص روحيتتعرّىألبسها جسدا من نار.اكسوها مجازا عربيّاأستحضر تاريخا فاتوأصدّق ما زعم الخطباء من بطولات...»
ثمّة في قصيدة الغيمة أوجه عديدة من التعرّي والتقمّص .لكأنّ الكائن الشّاعر يحنّ إلى الخروج من جلده ومن عباءة التاريخ العربيّ الذي يعجّ بالزّيف والبطولات الكاذبة والانتصارات المزعومة.وكأنّ الإنسان العربيّ لا حضور له في هذا الكون سوى حضور مجاز، وقد خلا حاضره وماضيه من الإبداع والفعل في التّاريخ .يقول الشّاعر في غيمته :
« ...أنسج من بعض خرائطهمأشرعةوأقلّب كلّ الأوزان، وأعيد لذاتي شهوتهافأسمّي الموت الدّاخل نصرا، وأعدّ له قصصا، أبطالا من ورق وزعامات.اسأل يا قلمي الطيّبهل ثمّة من قبلي في الأرض عراة...» يتبع