... وأنا أقرأ الديوان الاخير للشاعر سيف الرحبي الذي أهدته مجلّة دبي الثقافية في شهر نوفمبر الى المثقفين العرب سجّلت على أوراقي بعض الملاحظات. قصائد طويلة مزدحمة ومكتنزة بالصور والمعاني الشعرية (مملوءة أكثر من محافظ بعضهم).قصائد كالأنهار تتدفق وتحمل في مجاريها أشياء كثيرة... وحيثما توجد هذه القصائد فلابد أن للشاعر نفسا شعريا غزيرا... يكتب الشاعر الألم بألم شديد لكنه لا يبكي ولا يتنهّد ولا يتوجع ولا يكاد يتساءل فالصور الشعرية التي ينسجها تحمل بدورها هذه الشحنة الكبيرة من الألم. يجمع الشاعر بين الذاتي والجمعي وبين الرومنطيقي والرمزي وبين الواقعي والاسطوري لينسج تنافرا لفظيا يصنع غرابة الصور الشعرية ويتوغّل في مغامرة اللغة والخيال والابداع. يغلب الحزن والانكسار على هذه التجربة الشعرية التي هي تصوير لواقع حزين وحفر في ألم عميق وانتظار لحلم ما... تلوح في هذه التجربة غيوم وأحزان عربية يكابدها الشاعر ويعبّر عنها بشكل مختلف... لقد ارتحل الشاعر بالأحزان والمآسي العربية الى تخوم أخرى ولكن طائره الشعري حط في النهاية ولاح له حزننا العربي ومدننا العربية الحزينة. 2 المهمّ أن هذا العمل الشعري قدّم وجها ممتازا للأدب العماني وكشف لنا عن نصّ من النصوص الجميلة التي تضيع عنّا في زحام النصوص والمشاهد الثقافية... ففي هذا الزحام الممتدّ تضيع نصوصا كثيرة مثلما كنا صغارا نضيع في الأسواق... فشكرا لهذه المجلّة لأنها أوصلت إلينا هذه التجربة وأظنها فسحت لها المجال لتزور كل الوطن العربي وأعتقد أن هذا العمل سيحظى بشأن نقدي هنا وهناك لأنه نص ثريّ... 3 الرحيل مع نصوص هذا العمل متشعّب ويتطلب الكثير من الوقت والجهد لذلك اخترت الاشتغال على نص واحد لعلي أقنع القارئ بسطوري الأولى وأكشف له على ما في هذه التجربة من خصوصيات. 4 «الجداول تسرد رحلتها الجبلية». جملة اسمية عنون بها الشاعر قصيدته الاخيرة التي جاءت في عشرين صفحة وهي التي سنتوقف عندها. 5 تتغلف القصيدة بمعجم رومنطيقي طبيعي فالكاتب ينتقل بين العناصر الطبيعية برّا وبحرا وجوّا... من عناصر البرّ شجرة الغاف قطيع كباش مفازات وسهوب عصافير... ومن عناصر الجوّ النجوم والطيور والقمر ومن عناصر البحر الغدران والوديان والموج ولكن سرعان ما تستحيل هذه القصيدة تصريحا بالواقع العربي وأحزانه وأسئلة حيرة وإدانة لليوميات العربية... «نعم هذه هي البلاد هذا هو ا لوطن العربي التائه بين خرائط ومسافات أي لعنة مخبأة بين ضلوعنا أي صرخة يتسلّقها جوعى ومقاتلون في حروب عبثية؟» ويتوغل الشارع في رسم المشهد العربي القاتم... مشهد الطوفان والنهاية والدموع مستمدّا من الطبيعة ما يبرّر هذا الألم وما يجسّده. «إن هذا الغبار الذي يسدّ منافذ الكون ليس ذاك القادم من المريخ إنه رفات موتاي وأحلام أجيال مزّقها الثّكل ودمّرها الطوفان وهذا الصراخ المتفجر من فوهات غامضة هو صراخ أطفال يولدون ماذا تبقى من ضوءلنجمة تستهلّ نشيدها بالبكاء» 6 تقطع القصيدة سطور وفقرات نثرية يزداد الموقف ذهولا: إنه السقوط المدوّي للمدن العربية ووقوعها في حمامات الدم وبراثن الوحوش. «هذه هي المدينة الثانية أو الثالثة أو... التي تسكعت بين بواباتها الكثيرة وأزقتها المفعمة بالقدم والثورات تحت وابل أمطار الفجر والنسيم الطلق مع أصدقاء لم يعودوا أحياء ربما.. بحثت في الأنقاض والوحول التي تغطس فيها أقدام العساكر والنساء الجميلات عن التفاتة أو فكرة هاربة من خيال محاصر تعينك على صوغ الألم والقصيدة...». 7 يخاطب الشاعر قوى الاحتلال التي تهاجم الأمة ولكن التحدي يفوح في خطابه وقد صنعه بالعودة الى الفضاء الطبيعي الرومنطيقي. «أنتم يا من تحتلّون كل شيء على هذه الأرض المحتشدة بالذهب والرغبات نصبت أعلامكم الحمقاء على كل تلّة أو مدينة فوق كل بحر أو صحراء وبلغتم الكواكب البعيدة جيوشكم البليدة سيّرتموها في كل الاتجاهات لكنكم لا تستطيعون حتى الاقتراب من تلك الجنان الخضراء الوارفة لروح حرّة وقلب طليق» فجأة تحط القصيدة في بيروت... بيروت التي ظلت عند المثقف العربي حلما كثير الجراح «بدأ الشتاء الشتاء يبدأ متأخرا هذا العام شتاء القاهرة شتاء بيروت التي فاجأتها الحرب ومضت تعانق قدرها بجمال من أدمن الفجيعة والحياة» ثم تطير الى نيويورك لتستحضر الحادي عشر من سبتمبر الشهير وتصوّر ما يجري للعالم الذي دفع ومازال ثمن ذلك اليوم. «طائرة ترتطم ببرج تتبعها أخرى وفي ركن قصيّ من العالم قنابل تنفجر وشموس تستعر من وقعها ترتجف السماوات السبع وعصور الجليد وفي الركن نفسه رجل يقبض بأسنانه على جروح الوحدة والانكسار» 2 يصور سيف الرحبي مرات عديدة الموت العربي بشكل مؤلم وكثيف: «ساجية هي المقبرة هدوء مشوب بأمل الانفجار انفجار بركاني يدفع بصبر الأشلاء الى السطوح مناديل ورقية تتطاير في الفضاء مناديل الموتى الذاهبين في نزهة موتهم المنسحبين أفواجا من الحياة بأقدام غارقة في الوحل ووجوه عفّرها غبار الأزمان لا أثر يدلّ على هذا الانسحاب» 3 إن هذه الرحلة الشعرية تطوف حول المأساة العربية ولكن الشاعر يمزجها بمقاطع الحنين والاغتراب التي تزيد رسم صورة الانسان الحزين من جهة وتجعل القارئ يخمن ان هذه القصيدة مزيج نصين... نص أوّل يبكي الوطن العربي ونص ثان يصوّر اغتراب الذّات... «حسنا: ها أنت في البلاد التي لا تزال تحلم بالعودة إليها ومازال الحنين يأخذك نحو وجوهها الألف والحدائق المعلّقة في الغبار من طريق المطار شعرت بالحمّى تعصف بعظامك المتعبة من طول الرحلة» إنها الغربة التي يرافقها اغتراب... ولعله بؤس العودة وصدمة اليوميات العربية: وهي صورة شعرية يصوّر من خلالها الشاعر الألم الذي صدم النفوس حتى تبدو العودة كنظرة ثانية الى هذه المدن العربية وهي نظرة حزينة عكس النظرة الأولى للحياة: نظرة الحلم والطفولة: «تمنيت وأنت تسمع نداء المذيع باقتراب نهاية الرحلة أن تعود القهقرى من حيث أتيت أو إلى رحم أمّك أو تختفي البلاد من الخارطة ويسود الهدوء بمحو صاعق كما محقت أقوام عاد وثمود» 4 أتوقف الآن... جبت القصيدة طولا وعرضا... شعر مثقل بالصور الشعرية المتنوعة وبالحزن والموت والألم والمرارة... وشاعر ينسج نصوصا سريالية قاتمة... لكن الغموض لا يبلغ حدا بعيدا... فالمفاتيح موجودة ولن يظل القارئ بعيدا عن النص فالعبرات ستسقط عليه والدماء ستسيل قريبا منه والفوضى ستعمّ... سرعان ما يقع القارئ في هذا السواد والحزن وسرعان ما تصطاده حبائل اللغة التي أعدّها له الشاعر العماني سيف الرحبي الذي يقول عنه ناصر عراق «إنه مغامر من الطراز الرفيع يعشق المغامرة لأنها تجدّد روحه وتحرّره من أسر الرتيب والمكرور والشائع لا ينتظر من مغامرته هذه جزاء ولا شكورا بل يسعى لأن يجعل نار القصيدة مشتعلة على الدوام تدفئ من يقرؤها من برودة الروح وتقترح عليه مسالك وطرقا أخرى للتلذذ بفن الشعر». سيف الرحبي: حيث السحرة ينادون ببعضهم بأسماء مستعارة