ضاعت سنتان كاملتان من العمر والفرقاء السياسيين في تناحر تام وكر وفر وتعانق حينا وتصادم حينا آخر، وظهر المشهد السّياسي متزامنا مع أزمات متتالية سواء كان مع المؤسّسات الإعلامية، القضائية، والأمنية، ومع المؤسّسة الجامعية، وزاد الطين بلة غياب الثقة ما بين المؤسّسة الإدارية قد يكون للتسرع في بعض الأحيان وللإرادة السياسية المتواضعة بمختلف الوزارات وضعف التجربة، وانتهى المطاف بانفجار أزمة مع المجتمع السياسي والمدني والحمد لله أن المؤسسة العسكرية صمام الأمان للثورة التونسية كانت على مسافة واحدة من الجميع. كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية مزعجة جدا في الوقت الراهن وهذه حقيقة لابد من مصارحة شعبنا بها، وهو ما يبرهن أن الحكومة وبقطع النظر عن نواياها الطيبة أضحت «عاجزة» في بعض مفاصلها الحيوية عن اتخاذ القرار الصّائب وفي الوقت المناسب، قرار لا يصنعه إلا التوافق وإعلاء مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، حيث تراكمت الأزمات المتتالية فوق بعضها، لتصبح أزمة كبيرة ككتلة منفجرة في كل لحظة، نتائجها وخيمة على النهضة وعلى حلفائها وكذلك على المعارضة بمختلف أطيافها، وعندما يحصل ما لا يمكن تداركه لن ينجومن انفجارها أي احد لا داخل «النهضة» ولا خارجها !
إنها أزمة تكبر في كل يوم ككتلة الثلوج المتدحرجة، لم يعد يجمع التونسيين أي رابط اجتماعي متين لغياب الثقة ما بين الناخب والمنتخب، لم يعد التونسي يشدو الأمل في الأكل والشرب بل أضحى ينشد الأمن لأفراد أسرته أولا و لأملاكه ثانيا. صاحب العمل أصبح رهينة المتسكعين والعاطلين ثم الفوضويين والمخربين من المعتصمين و قطاع الطرق. ولسائل أن يسأل من أين أتت لنا هذه الهجمة الهمجية؟ التي حولت العاملين في جل المؤسسات العامة والخاصة إلى عاطلين...عملا بشعار تروتسكي نأكل أو نجوع جميعا معا .. ليصبح الجميع اليوم في مركب واحد للإفلاس الجماعي! وهو ما يطرح أسئلة عميقة في مدلولاتها: ففي البداية لابد من مصالحة شّاملة وفورية. وحوار حيني دون أي إقصاء أو تهميش أو شروط مسبقة وهذه المصالحة الفورية هي المطلب الأكثر إلحاحا اليوم داخل المجتمع السياسي تفاديا لصدام اجتماعي لا يمكن أن نتكهن بنتاجه.
لقد تدحرج اقتصادنا إلى خطوط التماس، وتزايدت طلبات الشغل الإضافية في ضل ماكينة اقتصادية معطبة، وأصبح الخوف من المستقبل هاجس يؤرق كل التونسيين، بكل حساسياتهم، وسيردون عليه حتما في القريب العاجل عبر صناديق الاقتراع عليها ! فهذه المصالحة الوطنية الشاملة والفورية تبقى أساس الوحدة الوطنية، وتبقى دون أي شك مسألة حياة أوموت لاقتصادنا ولوطننا. فكلما تراجع أداء الحكومة، كلما كان المجال مهمشا وكلما استفحل الانفلات الأمني وتراجع مناخ الاستثمار وتقلصت الثروة الوطنية، كلما طالت فترة النقاهة، مما يستدعي الحفاظ على نسيج الاقتصاد الوطني بتحريره من قيود الجبن والخوف اللذين سادا المجتمع التونسي بعد الثورة.
وهذه المرحلة العصيبة من تاريخ بلادنا تستوجب كذلك وبكل ذكاء و تجرد إطلاق سراح السّجناء السّياسيين بعد الإسراع في محاكمتهم محاكمة عادلة وفورية، لان العدالة الانتقالية تستوجب المحاكمة والمحاسبة والمصالحة اخيرا، وتشكيل حكومة مصالحة وطنية تضم جميع الأطياف السّياسية من «النّهضة» مروراً بجميع أحزاب المعارضة إلى الدّستوريين وممثلين عن جمعيات المجتمع المدني والشّخصيات المستقلة .
لكني أرى السيد رئيس الحكومة المهندس حمادي الجبالي، عاجزا على التزحزح قيد أنملة جراء وجود صقور معروفين بعقلية الثأر العشائري ، حقا حصلت مظالم سابقا و أخطاء جسيمة ومتعددة في حق السياسيين ، لكن الثأر العقيم لا يعيد الصحة المنهوكة للمعتقلين ولا الأزواج للأرامل.... لا نريدها مصالحة الثأر التعجيزي الذي واجه به المهلهل جسّاس لوضع حد لحرب البسوس بين قبيلتي تغلب وبكر ، عندما اشترط المهلهل على جساس صلحا، بشرط أن يملأ بُرْدَيّهَ من نجوم السّماء وأن يعيد له كُليبا [أخاه]حيا»!
وأمام النية الصادقة لرئيس الحكومة المهندس حمادي الجبالي للمضي بتونس إلى التفتح والعقلانية فإني ادعوه من موقعي لتكوين حزب جديد يلد من رحم النهضة، قد يلتحم معها في بعض المواقف و قد يتنصل منها طورا آخر وذلك من أجل تونس التي استشهد من اجلها الشهداء. وإني لواثق من أن العقلاء.. سينتصرون على الغلاة، وإذا ما حدث هذا الفوز التحرري من القيود والعناد السياسي القاتل فان بلادنا ستشهد حتما انتقالا نوعيا يجعلها في مدار سياسي ثابت.
إن ما ننشده هو التخلص من جراح الماضي والنظر إلى المستقبل بكل جرأة وثقة واطمئنان والتطلع إلى تحرر فعلي من التحالفات الشّكلية والإعداد الجيد لمواجهة هذه الأزمات الخانقة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ، حتى يكون النجاح جماهيريا بتحييد الفشل المتوحد، وحتى يتم استعادة الثقة ما بين المواطن والدولة.
تونس ما بعد 14 جانفي، استفاقت ونهضت من سباتها كل التيارات السياسية وحتى الانتهازية وشبه الثورية و لم يعد بوسع أي كان إيقاف التيار الجارف في المنحدر، فلا الحل الأمني ممكن ولا الحل العسكري لإجهاض التحركات ممكن لان الأنانية استفحلت، والأصولية تفشت ولان النزعة الحزبية والجهوية تكاثرت، ولأن التغلغل والتعصب المتحجر أتى على كل الأفكار المستنيرة، ولأن الوسطيين تراجعوا، ولان المعتدلين يتساقطون بقوة الجذب إما إلى الوراء أو إلى الأسفل، فلم يعد لأي كان من التيارات السياسية أن تحتكر السّلطة والثّروة وتُقْصي الآخرين.
ويبقى توسيع دائرة نظام الحكم بتشريك كل النّخب دون استثناء أو تهميش وكل الطّبقات والجهات بلا أدنى استثناء في السّلطة تفادياً لانزلاق جماعي خطير ينتفع منه أشقاؤنا من الضفتين وبعض ممن كانوا أصدقاء الأمس. تتخذ إجراءات أقوى في إطار القانون.
وحصلت العديد من التظاهرات والتحركات في السنة الثانية للثورة، ولم تتحقق الأهداف التي جاءت من أجلها، وستضل الضحايا، وهذا أمر ثابت إلى أن يأتي اليوم الذي ستكتمل فيها ثورة الجياع مسيرتها. وللأسف فإن حكومة تتجاهل في بعض الأحيان ما يحدث في أرجاء الوطن فرئيس الدولة في القمة الأفريقية ورئيس الحكومة بين مطرقة وسندان المتشددين، والمجلس التأسيسي لازال يترنح في انجاز الدستور، ويبدو أن الجميع يرفض أجل الدستور وكل من يرفض الأجل مرفوض.. والأجل قادم على كل من يستهين بقوة الشعب، وهو ما يستوجب أن يتعض الجميع من هذا التاريخ.
إن فصيلا كذلك من الثورة غير مشهود له بصفة مباشرة في إسقاط نظام الاستبداد الذي استأثرت قلة منه به، لها مرجعية نقابية ودستورية ومعارضة لا تسعى حسب اعتقادنا إلى إسقاط الحكومة رغم انه يرتقي في بعض الأحيان إلى المطلب الجماهيري، لأنها حكومة قامت على خطإ المحاصة وقدم فيه الولاء على الخبرة فلن ينسى الشعب قتلة الكاف وتالة وبوزيد وبوزيان ......الخ.
لقد خذلت هذه الحكومة ولو عفويا من انتخبوها بمواصلة استعمالها الرصاص بعد الثورة، فإن الثورة يملكها الثوار والشارع وحده هو الذي يحدد ملامحها، والنهضة في زعامتها للترويكا خانتها أفكارها والاستحقاق هام وفي غاية من المسؤولية.
ان حركة النهضة قائدة مركبة الترويكا وجميع النّخب مدعوة إلى فك شفرة طوق النجاة، إذا ما تحلّت ببعد النظر وتخلّت عن مشاعر الغنيمة والثأر وتمسكت بمبدإ المصالحة الوطنية، الشّاملة! إن السيد رئيس الحكومة المهندس حمادي الجبالي، في حاجة إلى حزب على غرار حزب أردوغان ليقود تونس باعتدال وحكمة ووسطية إلى شاطئ الأمان والتخلص من الفكر الدموي «المتلخص في أن لا نغير المشهد ولا نترك السلطة إلا بحمّام دم» وبدون تصفية النخب الديمقراطية بواسطة «السلفيين» والذين يجب ان يستفيقوا كذلك من سياسة التخفي التي يضعها متطرفون على رؤوسهم للتمويه ولارتكاب العنف وما يرتكبه آخرون باسمهم، وتفكيك المؤسسات العمومية، تحت شعار «التطهير»، كالأمن والجيش والقضاء والإعلام والإدارة.... فلابد من التخلص من أساليب تكميم وقمع وتصفية المعارضة عن طريق لجان حماية الثورة التي هي من أصول تجمعية متنكرة في أغلبها، تم تسخيرها بالاندساس داخلها لطمس كل معارضة جدية للمشروع السياسي الحالي، وتدربت على تفكيك الدولة المدنية.
وفي ظل كل هذه المتناقضات فإن السيد رئيس الحكومة المهندس حمادي الجبالي في حاجة متأكدة اليوم قبل أي وقت مضى ليقود حزب منفتح يؤسس به إلى مرحلة جديدة لتونس الثورة 2 ، وحدها الشجاعة السياسية والفكرية التي عودنا بها قادرة على كسر هذا الطوق الخانق حتى لا تتم صوملة تونس.
هل ستصبح تونس بقيادة الجبالي تركيا ثانية؟ تتزعم معها العالم الإسلامي في التحرر والديمقراطية والعلمانية، وترتقي باقتصادياتها الى الرقمين كما حصل في السبعينات مع العبقري الهادي نويرة ، بمعدل قياسي:14 % سنويا؟ .