لم يكن يخطر ببالي ابدا أن تصل الخيانة بالرجعية العربية والدينية منها بصفة خاصة من جماعات الاسلام السياسي من الاخوان المسلمين ومن جماعات السلفيين الوهابيين التكفيريين الى هذا الحد من الحقد الأعمى ضد الأمة العربية ومكتسباتها الحضارية والتاريخية والمدنية وحتى الدينية . كنا نسمع منهم ونقرأ لهم أنهم ألد أعداء الغرب والاستعمار والصهيونية والامبريالية .فها هو سيد قطب رحمه الله يكتب بمجلة الرسالة المصرية منذ ما يزيد عن نصف قرن عن الغرب وأمريكا فيقول : «فها هي ذي أمريكا تتكشف للجميع ، هذا هو (ترومان) يكشف عن (الضمير الأمريكاني) في حقيقته، فإذا هو نفسه ضمير كل غربي، ضمير متعفن ، لا يثق به إلا المخدوعون.
إنهم جميعاً يصدرون عن مصدر واحد ، هو تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير، تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المُرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس» وفي نفس السياق يواصل فيصف حضارة الغرب ب«إنها حضارة زائفة لأنها لم تقدم للإنسانية زاداً من الروحية ، ولم تحاول رفع الآدمية عن قانون الوحوش، وهل تطبق هذه الحضارة مع شعوب الأرض المنكوبة إلا قانون الوحوش؟».
هذه هي ربما نظرة الاخوان المسلمين للغرب ولأمريكا في الخلفية الثقافية لمشروعهم الفكري كما صاغه منظرهم السيد قطب. هذا الموقف الذي عبر عنه الشيخ راشد الغنوشي مؤسس حركة الاخوان المسلمين بتونس سياسيا في الشعار التالي واصفا:«أمريكا الشيطان الأكبر» .
لطالما كنا نسمع منهم ونقرأ لهم ما يدين غطرسة أوروبا وأمريكا وعنصرية الكيان الصهيوني وصليبية الغرب المسيحي حيث كانوا يؤمنون بالجهاد المقدس ضد العدو الصهيوني لتحرير فلسطين أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين . ولطالما صمّوا آذاننا بشعارهم الديني «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود»فكانوا يزايدون على الزعيم الخالد الذكر جمال عبد الناصر وعلى كل القوميين ويزعمون أنهم جنود الله الذين ستتحرر على أيديهم بيت المقدس .
لم يكن يخطر على بالي أن هذا كلّه سيتبخّر وسيذهب سدى وسينقلب المنقلبون . لم يكن يخطر على بالي أنه سيأتي اليوم الذي يتولى فيه الاخوان المسلمون السلطة في زمن «الربيع العربي» او بالأحرى ربيع هيلاري كلينتون المعدّل على أوتار الاسلام السياسي «المعتدل» والمعدّل على توصيات البنك الدولي و شروط الاقتصاد الرأسمالي العالمي النيوليبرالي وعلى التطبيع مع الكيان الصهيوني باسم «ثورات الديمقراطية» و«حقوق الانسان» وسيصبحون الحكام الجدد فينقضّون على السلطة باسم الشرعية الانتخابية . وسرعان ما سينكشف زيفهم وزيف شعاراتهم الخداعة والمضلّلة . وإذا بالشيطان الأكبر يصبح الأخ والصديق الأبرّ . واذا بالصهيونية تصبح حركة لا تعني غير الفلسطينيين وحدهم في القضية .
فهذا أوباما في زمن ربيع «ماما أمريكا» يموّل بسخاء منقطع النظير الحملة الانتخابية للسيد محمد مرسي حاكم مصر الجديد الذي لم يتردد في مراسلة بني عمه من صهيون في شخص الرئيس بيريز شمعون فيقدم له التهاني والتحايا بالمليون ويعتبره أعز صديق له في الكون ويطمئنه على اتفاقية كامب ديفيد باعتباره حريصا على مواصلة مسار سفينة «السلام» الخيار الاستراتيجي لسلفه حسني مبارك في الاستسلام والتطبيع مع العدو الذي لا ينام. كما أنه والحق يقال وعد شعبه فأخلفه في بضعة أيام. فها هو شعب مصرما زال ينعم بالقتل و الجوع والانتقام ومحمد مرسي ما زال حريصا على ابقاء حالة الطوارئ وعقوبة الاعدام و عدم تمكين المواطن المصري من لقمة العيش والشغل وحرية معارضة النظام.
و هؤلاء في تونس ما زالوا يستعملون الرش لترهيب المواطن وثنيه عن تحركاته الشعبية المشروعة بسلم وأمن وسلام. ولم تعد تعنيهم قضية فلسطين كقضية عربية بل تراجعوا عن تجريم التطبيع في الدستور بعد ما التزموا به أمام الجمهور وصرحوا به وأذاعوه ووزعوه في كل بيان ومنشور. إلا أن ما جرى ويجري في سوريا هو الأدهى والأمر حيث لم يستح هؤلاء السلفيين الوهابيين التكفيريين ومن معهم من الاخوان المسلمين من التعبير بالتصريح ولا بالتلميح من أن بشار الأسد هو العدو الأخطر وفي سبيل ذلك يتعاونون مع الشيطان الأكبر. فاستغلوا منابر الجوامع بالخطب لتحريض وتجنيد الشباب من كل حدب وصوب. وانتدبوا جماعات القاعدة من كتائب النصرة وجنود الشام وغيرهم لإعلان الحرب ضد الدولة السورية نيابة عن الغرب. هكذا أثبتوا أنهم الأداة الطولى للامبريالية الأمريكية والصهيونية والرجعية العربية المتصهينة في تنفيذ المؤامرة الكونية وحرب الارهاب الدولية على سورية الدور والمقاومة.
وما زاد من كشف عمالتهم للحركة الصهيونية القاعدة المتقدمة للامبريالية العالمية هو اقدامهم على عديد المحاولات لضرب الدفاعات الجوية في دمشق وحلب خدمة لأغراض العدو. وما اقدام هذا الأخير على تنفيذ عدوانه المبيّت في الغارة الأخيرة على دمشق يوم الاربعاء 30 كانون الثاني 2013 على موقع عسكري الذي يعد مركزا من مراكز البحوث العلمية التي كانت الهدف الأول في ريف دمشق وحلب للعصابات التي تقودها تركيا والكيان الصهيوني وقطر إلا دليلا على التعاون المباشر أو غير المباشر مع هذه العصابات الارهابية صنيعة السي آي آي والموساد بعد فشلها الذريع الذي منيت به طيلة العامين تقريبا في انجازأي تقدم عسكري يذكر على الأرض .
وهذا يجرنا للحديث عن التحالف الموضوعي بين الجبهة الصهيونية من جهة والجبهة الظلامية من جهة أخرى لزرع الفتنة الطائفية في الوطن العربي و محاولة اشعال فتيل النزاعات الجهوية والنعرات القبلية والحروب الطائفية والصراعات المذهبية لضرب النسيج الثقافي المجتمعي ونشر ثقافة دخيلة في ظاهرة التدين والتعبّد الممزوجة بطابع دخيل حتى في اللباس والمشبعة بالتطرّف والتشدّد الى حد المغالاة فيه والانغلاق في اطار رؤية سكونية ستاتيكية للظواهر والأشياء وبمنهجية لا تاريخية و بعقلية متعصّبة منغلقة على ذاتها رافضة لكل جديد مقاومة لكل روح متجدّدة ّ : متأصلة في عصرنتها ومعصرنة في تأصّلها تريد أن تتطور وفقا لسنن الكون ونواميسه التي بثها الله في الوجود الانساني . ما يفسر عديد المظاهر العنيفة والمتشددة التي أصبح يعاني منها المواطن العربي في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن و سوريا .
ولعله ليس من قبيل الصدفة أن ينشروا ما يسمى بالفكر «الجهادي» لجماعات تنظيم القاعدة في هذا المناخ «الثوري» في زمن «ثورات الربيع العربي» تحت مجهر من صنعوه وأسسوه ورعوه من مخابرات الرجعية العربية وعلى رأسها مشيخة قطر والمملكة العربية السعودية وأمريكا والغرب . و كما أنه ليس صدفة ولا عن طريق الخطأ أن يقع حشد وتجنيد وتجييش الشباب العربي لما أطلقوا عليه زورا وبهتانا «الجهاد في سوريا» أين ستؤسّس حسبما أدعوه شيوخ الفتنة والعراعير «دولة الخلافة» للانحراف بالجهاد والنضال عن بوصلته الرئيسية ألا وهي فلسطين القضية المركزية للأمة العربية بما أن المتأسلمين من الحكام الجدد يتمسحون على أعتاب أسلافهم من الحكام القدامى للتطبيع مع الكيان الصهيوني ولضرب هوية الأمة العربية بالانحراف عن هدفها المنشود في الوحدة العربية . أليست هذه جبهة ظلامية صهيونية ؟