لم يكن أحد يتصوّر مثل هذه الجريمة البشعة التي أودت بحياة القيادي السياسي شكري بلعيد. لم يكن أحد يتخيّل أن يقتل تونسي تونسيا آخر بمثل هذه البرودة، وهذا التصميم. بمثل هذه الميكافيلية. كنا نتسلى بقصص مثل هذه الجرائم في الأفلام الأمريكية وأحيانا في شرائط أخبار بعض الدول المصابة بداء الجريمة المنظمة في الغرب أو التعصّب الديني في الشرق. وكنا نظن بالاعتماد على تاريخينا السلمي وطبائع شعبنا المسالم أننا في مأمن من ذلك الكره الذي يصل حدّ القتل، حدّ الجريمة. لم نكن نظن أن تقع مثل هذه الجرائم في بلادنا لكن اغتيال شكري بلعيد لم يفاجئنا. لأن الجريمة كانت متوقعة بل منتظرة، بل معلنة.
أعلنها العنف الذي صار حاضرا في واقعنا السياسي والاجتماعي والذي وصل الاستهانة والتفاهة. عنف في الخطاب، عنف في الحوار الذي ينقلب سريعا إلى مواجهة للتخوين وللتكفير وللتجريم.
أعلنتها إرادة الاقصاء والاستبداد بمسك الحقيقة، أعلنها الاحتقان الذي يتغذى من سياسة المماطلة وانسداد الأفق وخيبة الأمل في ثورة مثالية لطالما حلمت بها الأجيال وألهمت الشعوب واقتبست منها الدول. الجريمة ضد شكري بلعيد كانت معلنة لأن الأسلحة النارية أصبحت بضاعة مبتذلة تباع وتشترى ويهدّد بها الناشطون السياسيون. ولقد هدّد شكري بلعيد مرارا وتكرارا واتّهم علنا ببث الفوضى والشغب.
لقد كان قتل شكري بلعيد معلنا لأن قبله قتل آخرون وضاعت دماءهم في منعرجات التحقيقات الأمنية والحيثيات القضائية. قتل شكري بلعيد لأنه كان صوتا حرّا مختلفا لا ينكسر ولا يتنازل.
إن القاتل معروف لا يمكن لأحد منّا أن ينكره، إنه نشأ على هامش مشروع الثورة وطموحها في بناء ديمقراطية تضمن الحرية والاختلاف، وتغذى بالتعصّب والكراهية ورفض الآخر.
وكان على السلطة العمومية أن تعلم أن الحكم ليس لعبا وأن تعزم وتحسم وتمنع الجريمة. ندعو الله ألا تفتح شهادة شكري بلعيد باب المآسي أمام شعبنا وبلادنا.