لم تمرّ تونس بفترة أعسر من تلك التي عاشتها بين 14 جانفي 2011 و 23 أكتوبر من نفس السنة وقتها كانت ممارسة العنف يسيرة وكانت امكانية القتل والاغتيال متوفرة خصوصا ان الأنفس كانت ثائرة والأعصاب متشنجة والعداوة رائجة. ورغم تلك الأجواء الملبدّة في سماء بلد على كفّ عفريت عاش رموز النظام السابق من مسؤولين كبار في مواقع مكشوفة وتردّدوا على المقاهي والنزل وتجولوا في الشوارع بدون أن يمسّهم سوء أو يتعرضوا إلى انتقام أو حتى يوجه إليهم شيء من التحرش وحتى عمليات الاقتحام لدور السكن وحرق بعضها فانها وجهت إلى مقرات أقرباء زوجة الرئيس السابق فقط لا غير وتمت عبر عناصر منظمة ومنضبطة مازالت مجهولة الهوية وإن كانت عديد الشكوك تحوم حول هويتها. وكان الأمن في تلك الأيام غائبا وكان الجيش منهكا، وكانت الدولة غير موجودة ومع ذلك فلم تشهد تونس لا العنف السياسي ولا الاغتيال السياسي رغم سقوط حكومة أولى، وثانية تحت وطأة تحركات سلمية واعتصامات مدنية واحتجاجات صوتية ليس إلا وكانت أيضا حدود البلاد مستباحة والتهريب منتشرا والجغرافيا التونسية كلها مكشوفة ولكن وتيرة الحياة المسالمة ظلت هي عنوان المرحلة. ورغم القلق كانت الطمأنينة ورغم الضغط كان الأمان ورغم الأعصاب المشدودة كان الأمن المستمد من علاقات التونسيين ببعضهم البعض ومن وعيهم وإدراكهم واعتدالهم وخاصة تفكيرهم.
ثم عاشت تونس مرحلة شدّ وجذب حول موعد الانتخابات أو حول ظروفها وحول التهيئة لها فمرّت مرة أخرى من تلك المرحلة بسلام وتكللت جهودها بما أبهر التونسيين قبل أن يبهر غيرهم وبما يدعو إلى الاعجاب بهم والرهان عليهم لكن ومنذ 23 أكتوبر أي منذ ظهور النتائج الأولى للانتخابات عاد التوتر عوض أن ينتهي ولاح التشنج عوض أن يتبخر وظهر العنف يلوح أنه معرف سوف يكون محرارا للحياة السياسية. ظهرت بقوة جحافل لقوى سلفية متعددة وبرزت روابط تدعي حماية الثورة وكانت كلها مسنودة بخطاب سياسي للترويكا يشجع ويوفر غطاء سياسيا ثم يبرر ويمجد حتى تم اغتيال السيد لطفي نقّض والتحرش بإتحاد الشغل وهو ماهو، وخطط أيضا إلى اغتيال السيد الباجي قائد السبسي وبعض رجال الأعمال ودعا البعض إلى إدراج الجهاد في الدستور تملّقا ولا مسؤولية وارتبط آخرون بقوى تكفيرية وزادت حدة الخطاب الداعي إلى نصرة الاسلام والمسلمين وظهر مصطلح الصحوة الاسلامية ووفد الدعاة المستفزون على تونس يستبيحون أرضها وثقافتها وشعبها وتمت مواجهات عنيفة بين قوى الأمن والجيش وبين الارهابيين فاستشهد رجال أمن وجيش وبرزت عصابات تهريب السلاح الذي أصبح منتشرا لدى القوى المؤمنة بالعنف والمدعية للخوف على الاسلام والمسلمين. وكلما هدأ الوضع إلا وعاد الخطاب السياسي للترويكا على وجه الخصوص يصب الزيت على النار ويحمل الحطب ويوفرّ البارود وخلال الأسبوع الفارط وحده عاشت تونس على وقع أحداث مرتبطة ببعضها البعض. الرمي ثانية بقانون الاقصاء عودة وتيرة العنف السياسي من منع للاجتماعات واعتداء على مقرات وملاحقة لشخصيات اغتيال السيد شكري بلعيد
ان هذه العناصر الثلاثة مرتبطة ببعضها البعض ومكملة لبعضها البعض، وكل ترويج لسيناريوهات بوليسية سينمائية إنما هو يخفي التملص من المسؤولية السياسية الواضحة ويرمي إلى التشكيك في كل شيء حتى تضيع الحقيقة ولا يدان الطرف المجرم ويقبل الناس بأن الحادث مجهول وبطبيعة الحال سوف توضع خطة لكي تصبح الأطراف المشكوك فيها ضحية لعملية اغتيال شكري بلعيد تماما كتلك الخطة التي تريد أن توحي بأن الاعتداء على مقامات الأولياء انما هي من فعل قوى الثورة المضادة وأزلام النظام السابق كما سوف توضع خطة لوضع سؤال عاشته من قبل الجزائر الشقيقة وهو من يقتل من؟ وذلك امعان في خلق الشكوك وتهربا من المسؤولية وممارسة للتضليل السياسي والاعلامي معا.
لماذا اغتيل شكري بلعيد بالذات
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من تحديد قائمة أعدائه وخصومه وهم لا يخرجون عن الدائرة «الاسلامية» وقد اعتدى فصيل منهم عليه يوم الأحد الفارط في مدينة الكاف ثم ان شكري بلعيد أصبح منذ مدة يجاهر بحل رابطات حماية الثورة، ويتهم حركة النهضة بالعنف والفشل معا ويقترب من الحزب الجمهوري على وجه الخصوص، الاتهام السياسي في هذه المسألة واضح ولكنه لا يعني شيئا قبل الاتهام القضائي، فالقضاء وحده هو الفيصل في مثل هذه القضايا ذات التأثير المباشر والخطير على البلاد بأسرها خصوصا أن هذه الحادثة قد تقود إلى مواجهات أهلية وإلى مزيد خراب تونس عمرانيا.
ولماذا مرّت بسلام من أخطر مرحلة وهي تلك الممتدة بين 14 جانفي و 23 أكتوبر 2012؟ ولماذا لم تعرف تونس الاغتيالات السياسية إلا بعد أن انتخبت مجلسا تأسيسيا وشكلت حكومة؟ ولماذا تم تمييع اغتيال لطفي نقّض خصوصا على المستوى الرسمي؟ انها كلها أسئلة تحمل في طياتها أجوبة واضحة حول هذا «الغموض» الواضح للإجرام السياسي الذي تعيش على وقعه تونس «الشهيدة».
نهاية رجل شجاع : كانت لدى شكري بلعيد معلومات حول نيّة اغتياله
قابلت الصديق شكري بلعيد لآخر مرّة في حياتي يوم الأحد الفارط صدفة في مقهى بضاحية النصر، لم يكن بيننا موعد مسبق، ولا نية مرتبة للقاء. وقد استفسرته عما وقع من أحداث بمدينة الكاف، فشرح لي حقيقة ما جرى، ولكنه قال أيضا وبوضوح إن وتيرة العنف في تونس سوف تزداد وإنه شخصيا لا يستغرب أن يتمّ اغتياله خصوصا إن التهديدات أصبحت متواترة، وأكد أنه منذ فترة أصبح يخطط لتحركاته وتنقلاته فالمخاطر جدية خصوصا بعد أن وصلته معلومات حول نية قتله. وقال لي عند نهاية الجلسة إنه مضطر أن يتوجّه لتعزية رفيقه محمد جمور في وفاة والدته، وإنه سوف يعيد الاتصال بي يوم الاثنين وهو ما تمّ وأعلمني أنه سوف يعقد ندوة صحفية يوم الثلاثاء موجّها كعادته نقدا رقيقا لتعامل «الشروق» مع شخصه ومع الجبهة الشعبية عموما. وتلك عادة دأب عليها شكري الذي على الرغم من التباعد الفكري بيني وبينه فقد كانت تربطنا علاقة صداقة عميقة، فذلك الشخص الصلب والراديكالي ينطوي على شخصية ودودة جدا، وعلى حسّ إنساني جعل كل من يعرفه يشعر به.
وقد عرفته تلميذا ثم طالبا ثم محاميا، والتقيته خارج تونس، وتحديدا بالعراق حيث كان يدرس وأين كان يتحسّس كعادته الدائمة سبل تغيير المجتمع وتثويره. رحم اللّه شكري بلعيد فقد كان رجلا شجاعا ومناضلا صلبا وإنسانا رقيقا.