لم يكن حال البلاد على أحسن ما يرام قبل اغتيال الشهيد شكري بلعيد، لكن هذه الجريمة النكراء رمت بتونس في أزمة سياسية عميقة لم تكن بوادرها خفية منذ أشهر. لنعد إلى ما قبل ذلك اليوم المشهود للسادس من فيفري. فلقد بلغت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مستوى من التردّي لم تعرفه منذ عقود طويلة. وكانت الاحتجاجات والاضرابات والاضطرابات وهذا هو الأخطر تتوالى على خلفية تعثر واضح لعملية الانتقال الديمقراطي الذي تقوده الترويكا منذ ما يزيد على الخمسة عشر شهرا دون أي نتيجة حقيقية ودون تحقيق أي هدف من الأهداف التي رسمتها الثورة وتعهدت بها الرئاسات الثلاث المنبثقة عن انتخابات 23 أكتوبر 2012.
وها نحن اليوم في مأزق دستوري وسط فراغ قانوني في جو من الاحتقان الذي ينذر بالانفجار في كل لحظة.
وها نحن اليوم وبعد خمسة عشر شهرا من حكم الترويكا بلا دستور يسوس البلاد ولا موعد انتخابات يفتح آفاق المستقبل أمام التونسيين ولا سلطة سياسية قادرة على الوصول بالانتقال الديمقراطي إلى شاطئ الأمان.
في هذا الجو المحفوف بالمخاطر جاءت مبادرة الجبالي المتمثلة في تشكيل حكومة تكنوقراط تتولى قيادة البلاد حتى موعد تنظيم انتخابات من المفروض أن تفرز حكومة تعيد إلى البلاد استقرارها وعافيتها الاقتصادية.
لكن ردود الفعل الأولى على هذه المبادرة أتت بخلاف ما كان منتظرا باعتبار الفشل الواضح للحكومة، وتحصّنت أحزاب الترويكا وبخاصة منها حزبي النهضة والمؤتمر بحجّة الشرعية لرفض مبادرة تاريخية وشجاعة ولعلها الوحيدة الممكنة اليوم والقادرة على إخراج تونس من عنق الزجاجة.
ولن تقف تداعيات هذا الرفض عند تعطيل الحل الذي تبشر به المبادرة فقط بل إنه ليس مستبعدا أن يؤدي إلى تقسيم النهضة وإلى تهميش حزب المؤتمر الذي يبدو تائها بين الاصطفاف وراء الحزب الاسلامي والتشبث باستقلالية باتت بلا مصداقية.
ولكن في هذا الجوّ القاتم الذي تعيشه بلادنا كان تشييع جنازة الشهيد شكري بلعيد التي أخرجت مئات آلاف التونسيين إلى الشوارع ووحدت مشاعرهم بمثابة العلامة المضيئة التي أكدت أن إرادة التونسيين في بناء مجتمع الحرية والديمقراطية لا تزال كاملة لم تتغير في كثافتها كما كانت يوم قيام الثورة. وهذا ما لا يجب أن يغيب عن الفاعلين السياسيين.