بخط معوج، من الواضح أنه كتب بيد مرتعشة في دفتر التعازي قرأنا نصا بسيطا لامرأة كتبته باللهجة العامية جاء فيه: «استشهادك يا شكري خلاني نفيق على روحي». وفي مقر حزب الوطد بنهج جمال عبد الناصر بالعاصمة، دفتر مفتوح لتلقي التعازي في الفقيد المناضل شكري بلعيد. قبل ذلك، وجدنا جدران المدرج مليئة بصور بالأسود والأبيض للزعيم الراحل وعبارات تمجد سيرته أمام عدد من شباب الوطد الذين جاؤوا باكرا للاستفسار عن تظاهرة فنية يعتزم عدد من الفنانين إنجازها يوم الأحد انطلاقا من مكان استشهاد شكري بلعيد نحو المركب الثقافي بالمنزه السادس. لقد بلغت سمعة هذا الرجل عنان السماء هذه الأيام، وحقق تعاطفا نادرا بين التونسيين من مختلف الاتجاهات. وقرأنا على جدران مكاتب الحركة النص الشعري الذي كتبه الشاعر أحمد فؤاد نجم ويردده المصريون هذه الأيام: «اقتل شكري، اقتل جابر، عذب جندي، اسحل صابر، املأ الأرض كلابا وعساكر، كل ما تذبح هي بتطرح، بدل الثائر مليون ثائر». ثمة أيضا نسخ من الرسالة المؤثرة التي كتبها الفنان مرسيل خليفة إلى الشهيد، والنص الشعري الجميل الذي ألفه الشاعر السوري من قلب محنة سوريا بحر الأواديسا في رثاء شكري بلعيد.
صبيحة أمس، امتدت التعازي في الدفتر على أكثر من خمسين صفحة، بمعدل نصين في كل صفحة، أناس عاديون بسطاء تركوا عبارات صادقة إنما مؤثرة جدا. سمح لنا موظفو المكتب ومناضلو الحركة الحاضرون بالاطلاع على محتوى الدفتر، حيث فوجئنا بمحتوى عبارات التعزية التي كتبها أناس بسطاء. وبفتاة صغيرة، كتبت بخط تلمذي: «ستبقى في قلوبنا»، فتاة أخرى كتبت عبارة بسيطة: «كلمتي الأخيرة هي أنك ستبقى في قلوبنا، رفيقتك الصغيرة مها النصري».
وكتب موظف في مؤسسة عمومية نصا في قالب شعري: «استكثروا علينا حياتك، قتلوك فخلدوك في قلوبنا». نتصفح أوراق الدفتر حتى نعثر على نصوص تفاجئنا بحميميتها، مثل ما كتب أستاذ تعليم ثانوي اسمه محسن معتوق يذكره بأنه عرفه لما كانا معا في معتقل التجنيد في رجيم معتوق، جاء في النص: «هل تذكر المطروحة، ذلك المكان الذي عرفنا فيه بعضنا عام 1986».
لاحظنا أن أغلب الكتابات كأنها موجهة إلى شخص حي سوف يقرأها عندما يعود قريبا من غيابه. بعد استغراقنا في نصوص ذلك الدفتر، فاجأنا مناضلو الحركة بدفتر آخر، لكبار الزوار مع برقيات التعازي من شخصيات وطنية ودولية ومنظمات عربية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والحزبين الشيوعيين اللبناني والسوري والاشتراكي اليمني، بالإضافة إلى عدة منظمات حزبية وحقوقية مغربية. وثمة أيضا برقيات من شخصيات أوروبية ومن أمريكا اللاتينية.
وفي دفتر كبار الزوار، قرأنا نصوص تعزية من شخصيات وطنية وأجنبية وممثلي البعثات الأجنبية في تونس، قرأنا إمضاءات لأشخاص معروفين مثل الباحث الجامعي الشهير عميرة علية الصغير الذي كتب: «أنت أكبر من مغتاليك لأنك تحمل هموم الوطن، هموم الفقراء والمحرومين، هموم الثوار في تونس والوطن العربي، المجد والخلود لك والخزي والعار لأعداء الحرية».
وثمة أيضا نصوص لشخصيات أخرى مثل الدكتور عبد القادر الجديدي وخليل الزميتي، بالإضافة إلى مواطنين عاديين مثل نص كتبه أب يقول إن ابنته المعاقة كتبت له رسالة وداع طويلة بكته فيها بحرقة الأطفال. وقرأنا في هذا الدفتر أيضا نصا قصيرا كتبته امرأة من العاصمة: «أن تكون ذكرا، فالذكور كثير، وأن تصبح رجلا، فالرجال قليل، عشت رجلا واستشهدت رجلا».
وفي الأثناء، نقلنا مناضلو الحركة إلى صفحاتهم في الموقع الاجتماعي حيث ظهرت عشرات الصفحات التي تحتفي به وحيث تنشر آلاف عبارات التعازي، وهناك اكشتفنا نص تعزية جميل جدا كتبه المفكر هشام جعيط (تقرأونه في صفحات الثقافة)، يعلن فيه انضمامه إلى الوطد قريبا، إنها إحدى أقوى عبارات التعازي التي لم تسجل في الدفتر، تكريما لهذا المناضل الذي بكته تونس.