في خضم ما يجري من تطورات سياسية واجتماعية في تونس، تتجه انظار عديد التونسيين إلى رئاسة الجمهورية متسائلين عن غيابها في إبراز أي موقف واضح مما يجري .. غياب ملحوظ لمؤسسة تقارب ميزانيتها 70 مليون دينار .. لا يعرف الشعب التونسي اليوم ما هو بالضبط دور مؤسسة رئاسة الجمهورية في ظل ما تشهده البلاد من تقلبات سياسية واجتماعية واقتصادية داخلية. فرئيس الجمهورية يكتفي بلعب أدوار محدودة تغيب عنها بوضوح سلطة اتخاذ القرار في ما يتعلق بالشأن الداخلي للبلاد وخصوصا عن اتخاذ قرارات حاسمة كلما حصلت ازمة في الحكم كتلك التي تعيشها بلادنا هذه الأيام .
فهل يجب تنقيح التنظيم المؤقت للسلط العمومية لإعطاء صلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية ؟ أم إعادة «الفلسفة» العامة التي بني عليها تقسيم السلطات الرئيسية في البلاد نحو منح صلاحيات أكثر للرئيس ليكون مؤسسة قادرة في صورة حصول ازمة سياسية على حسم بعض الأمور ؟ أم أن المرزوقي مطالب بمزيد الاجتهاد في إطار ما يسمح به قانون السلطات المؤقت ليفرض موقفا حاسما للرئاسة في ما يتعلق بالشأن العام للبلاد ؟
مليارات بلا صلاحيات
77 مليارا هي الميزانية الاجمالية لرئاسة الجمهورية كما تمت المصادقة عليها في قانون الميزانية. ومن ضمن هذه الميزانية أجور وامتيازات رئيس الجمهورية ( بمعدل 30 م د شهريا ). وتفوق ميزانية رئاسة الجمهورية الميزانية المخصصة للمجلس التأسيسي بحوالي 3 مرات .
ويقول رئيس الجمعية التونسية للشفافية المالية سامي الرمادي أن الامتيازات الكبيرة التي تتمتع بها رئاسة الجمهورية عالية وغير منطقية بالنظر إلى الصلاحيات المحدودة لرئيس الجمهورية في تسيير الشأن العام للبلاد. كما أنها غير معقولة أيضا مقارنة بامتيازات رؤساء الدول الاخرى بما فيها الدول الكبرى والمتقدمة، وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي والمالي الصعب الذي تمر به البلاد والذي يفترض التقشف أقصى ما يمكن في مختلف النفقات العمومية إلى حين مرور هذه الفترة الانتقالية. وقال أن مكافحة الفساد تتطلب توفر القدوة الحسنة في رئاسة الجمهورية .
ميزانية مبررة .. لكن
يقول المدافعون عن هذه الميزانية انها مخصصة لمركز سيادي له عديد المتطلبات والنفقات ومن الطبيعي أن تكون بذلك الحجم ولا يمكن تصور وجود نفقات غير مبررة لرئاسة الجمهورية أو تبذيرا في الميزانية خصوصا أن عدد الموظفين بها مرتفع.
لكن يستدرك أصحاب هذا الرأي بالقول أنه إذا كان بالإمكان القبول بالنفقات المخصصة للموظفين القارين وللأمن الرئاسي مثلا، لأن تلك مهنتهم الاصلية ومورد رزقهم القار منذ سنوات، فإن ما لا يمكن القبول به هو الاجور والامتيازات المرتفعة نسبيا للرئيس وللعدد المرتفع وغير المبرر لمستشاريه ولأعضاء ديوانه وللملحقين. فتلك النفقات لا تقابلها صلاحيات من شأنها أن تعود بالمنفعة على البلاد ومن المفروض التقليص فيها .
ويرى البعض أن ثلث هذه الميزانية قادر على توفير 6 الاف موطن شغل أو لتوفير مشاريع تنموية بالجهات تُحسن البنية التحتية وظروف العيش فيها ..ويخاف آخرون من امكانية استغلال هذه الميزانية للقيام بحملات انتخابية سابقة لاوانها لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي ينتمي إليه الرئيس وجل مستشاريه . ويستحضر البعض ما قاله رئيس الجمهورية في خطاباته الاولى عندما تحدث عن التقشف وعن التبرع بجرايته وبيع القصور.. ويذكرون كمثال عن ذلك ما قام به الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في اول مشواره كرئيس لفرنسا عندما قرر تخفيض ميزانية الرئاسة الفرنسية 30 بالمائة .
رئيس بعيد عن الواقع
محدودية صلاحيات رئيس الجمهورية جعلته وفق بعض الملاحظين يتيه في المبادرات وفي المواقف «الشكلية» التي لا تهم في شيء الشأن الداخلي وخاصة الشأن المعيشي للمواطن ولا تهم الشأن السياسي الداخلي خلافا لما كان يتمتع به مثلا الرئيسان الأسبقان لتونس (بورقيبة وبن علي). فالتونسيون تعودوا على أن القرارات الحاسمة والتي تقطع مع كل انواع الشكوك والظنون والمخاوف (في مختلف المجالات ) تأتي عادة من رئيس الدولة بعيدا عن التجاذبات وعن إضاعة الوقت. أما اليوم فلا نجد صدى لتدخلات الرئيس لدى المواطنين ولدى المؤسسات والهياكل المختلفة .
التحوير الوزاري
فبالنسبة مثلا لمسألة التحوير الوزاري التي يدور حولها الجدل منذ أكثر من نصف عام وأصابت الناس بالضجر وتعطلت بسببها عديد المصالح الحيوية في البلاد ( خاصة الاقتصادية والامنية والاجتماعية )، عاش التونسيون على امل أن يحسمها رئيس الجمهورية بقرار عاجل وصارم لو كانت صلاحياته تسمح له بذلك. لكن ذلك لم يحصل وأكثر من ذلك لم يكن رئيس الجمهورية من ضمن مجلس الحكماء الذي كونه الجبالي لهذا الغرض .
أين الرئيس الحكيم ؟
على امتداد أكثر من نصف قرن كانت لرئيس الجمهورية في نظر التونسيين مكانة معنوية واعتبارية كبرى وله دور «الحكيم» في التدخل وفي المبادرة وفي تلطيف الأجواء والحد من المشاحنات والصراعات وأكثر من ذلك في اتخاذ القرار الحاسم خاصة والمجتمع يعيش اضطرابات وتجاذبات سياسية واجتماعية معقدة. لكن هذا لم يجده التونسيون إلى اليوم في الرئيس المرزوقي لذلك فهم ينتقدون بشدة أداءه ودوره في السلطة .
فالمرزوقي مثلا لم يبد اهتماما كبيرا بعديد المظاهر التي تنخر المجتمع مثل العنف بانواعه وغلاء المعيشة والبطالة والتنمية في الجهات التي قامت فيها الثورة والملفات الاقتصادية الحارقة (التداين العمومي مثلا والاصلاح الجبائي..) واصلاح الإدارة والقضاء والاعلام. ففي كل مرة تكتفي رئاسة الجمهورية بتنظيم بعض الندوات أو اللقاءات أو باصدار بيانات للتنديد والاستنكار.