قال القُدامى «أَعْطِ القوْسَ بارِيها».. وقد رأيتُ إلى بعض هؤلاء الذين يتحكّمون اليوم في مصير البلاد فإذا فيهم من أكاد أزعم أنّه لا يستطيع أن يَبْرِيَ حتى قلَمَ رصاص! وقال القُدامى في باب انتحال الرجُلِ العِلْمَ وليس عنده أداتُه: «عاطٍ بغير أنواطٍ»، ومِثْلُهُ «إنباض بغير توتير»، ومِثْلُهُ «كالحادي وليس له بعير». وكأنّي بصاحب كتاب الأمثال يحضر زماننا هذا ويرى بأمّ عينه وأبيها ما نرى فيمحو أمثالَه هذه ويُحلّ محلّها مثلاً واحدًا: كمدّعي السياسة وهو تونسيّ!! دفعني إلى هذا الكلام هُزالُ المشهد السياسيّ مع احترام الاستثناءات. ولو اقتصر الأمر على الهُزال لهان، إلاّ أنّه تخطّاهُ إلى سلوك يصعب أن ننسبه إلى أسوياء. كلام غير مسؤول ولُعاب سائل على الكراسي واستماتة شرسة في التشبّث بالمناصب مع عمًى فكريّ وأخلاقيّ متبجّح يخرج بنا من حقل السياسة إلى حقل الباثولوجيا. لا أحد يشكّك في معقوليّة خُضوع الراغبين في قيادة الطائرات على سبيل المثال إلى فُحوص طبيّة تؤكّد سلامتهم من النواحي البدنيّة والعقليّة والسيكولوجيّة. وأغلب الظنّ أنّ قيادة الطائرة ليست أهمّ من قيادة البلاد ولا هي أصعب من السهر على سلطتها التشريعيّة أو التنفيذيّة. فلماذا لا يخضع الساسة والنوّاب إلى نفس الفحوص؟ لا علاقةَ للأمر هنا بأشخاص مُعيّنين ولا علاقة لهذا الكلام بأحزاب مُعيّنة. فقد رأيتُ ممارسات غير مسؤولة وسمعتُ كلامًا شديد الخطورة من جهات مُختلفة. وليس من النباهة طبعًا الوقوعُ في فخّ التعميم، ففي نخبتنا السياسيّة الحاكمة حاليًّا الكثير من العقول الراجحة التي «تزنُ بلدًا» كما يقول أشقّاؤنا المصريّون.. لكنّ المرضى موجودون أيضًا ولا تُخطئهم العين. ولا يُنكر ذلك إلاّ من كان ذا مصلحة في الإنكار! والحقّ أنّ المرض ليس ذنبًا فكلّنا عرضة إليه. لكنّ المريض العاديّ قد يتوفّر له الشفاء أمّا المريض السياسيّ فقد يستفحل مرضُه نتيجة عدم اعترافه به أصلاً. ثمّ إنّ المريض العاديّ مسؤول عن نفسه أمّا المريض السياسيّ فقد يقود مجتمعًا كاملاً إلى التهلكة إذا كان ضحيّة أمراض غير مرئيّة جرّاء ما تعرّض إليه. إنّ المناضل السياسيّ شبيه بالرهينة ضحيّة عمليّة اختطاف! ويتحدّث الأطبّاء في هذا الشأن عن أعراض لاحقة قد لا تظهر ملامحها إلاّ بعد مُدّة. لذلك هم ينصحون ضحايا الاختطاف بعدم العودة إلى منازلهم ومباشرة أعمالهم إلاّ بعد أن يُحاطُوا بعناية خاصّة كي يستعيدوا توازنهم وسكينتهم! بعضُ قياديّي المرحلة الراهنة سُجِن طويلاً. وهي معاناة يستحقّ عليها كلّ تعاطف وإنصاف وردّ اعتبار. لكنّه كاد أن ينتقل مباشرة من الزنزانة إلى السجن، فهل هذا معقول؟! بعضهم لم يدّخر جهدًا في سبيل إقناعنا بعذاب المنفى ولم يتوقّف عن التأكيد بأنّه لا يقلّ معاناة عن السجن وبأنّه ليس سياحةً من نوع خمس نجوم! ولأنّنا نصدّق الجميع فإنّ من واجبنا أن نقدّر لهم معاناتهم لكنّ من حقّنا أن نطمئنّ قبل تسليمهم أيَّ مقود إلى أنّهم خالون من تبعات تلك المعاناة وأضرارها الجانبيّة. قد تُخلّف المعاناة حقدًا أعمى! وقد تُخلّف رغبةً في الثأر! وقد تؤدّي بصاحبها إلى إعادة إنتاج جلاّده والتماهي به والرغبة في الحلول محلّه! دون أن ننسى من لم يعرفوا سجنًا ولا منفى لكنّهم ضحايا «أمراض» اخرى، قد يكون من تبعاتها هذه «اللهفة» على الكرسيّ، وهذا التكالُب على المُحاصصة وتوزيع الغنائم، كلّ ذلك على حساب مصلحة البلاد والعباد. لكلّ هذه الأسباب وغيرها وبعد التحيّة والسلام أتوجّه من هذا المنبر بطُمّ طميمي إلى مجلسنا الموقّر طالبًا منه أن «يُدَسْتِرَ» لنا هذه المسألة حتى يطمئنّ قلبي! أُرِيدُ دَسْتَرةَ آليّاتٍ تضمن خضوع كلّ مترشّح لأيّ منصب سياسيّ (تنفيذيّ أو تشريعيّ) إلى معاينة طبيّة، سيكولوجيّة تحديدًا، تُشرف عليها هيئة مستقلّة! عِلمًا بأنّي لا أطلب ذلك رغبةً منّي في التطفُّل على عملهم العظيم. بل لأنّ «مكسبِي» طفلة وحيدة أريد التأكّد من أنّ مستقبلها لن تتلاعب به «حالات باثولوجيّة» لا سمح الله!