طوت بعض نخبتنا العقلانية جدا الحقوقيّة حتّى النخاع، طوت صفحة فرحها بالثورة سريعا.. أفاقت بعد تراخي أثر صيحة "الشعب يريد" المسكرة على هوّة سحيقة صارت إليها عند الصحو.. لقد كانت الانتخابات مرآة رأى فيها مضاربو السياسة وجوههم فاشتدّ فزعهم واحتدّ بهم النواح.. في البدء فرحوا بعدسات الكاميرا تصوَّب إليهم وقد كانوا يقنعون من قَبْلُ بمواقع الكومبارس الخفية الخلفيّة.. ابتسموا كما لم يعرفوا الابتسام ووافقوا على تسمية الثورة بالثورة.. وما قصّروا !.. وأقبلوا على الأوهام ينهلون من معينها وقد جمعوا في أوعيتهم المثقَّبة "ظنّ" و"حسب" و"خال" و"رأيت فيما يرى النائم" وهلمّ جرّا.. فكان أن دفعت بهم الانتخابات إلى الاصطدام بصُوَرِهِمْ.. فرأوا حقيقة "لم يظنّوا لها وجودا" من قبل و"لم يحسبوا لها حسابا" و"لم يسغفهم بها خيالهم الجموح".. لقد رأوا حقيقة فاجعة "أذهبت نعاسهم فلم يروا".. وتراءت لهم أحجامهم تتقلّص أمام أعينهم وذهب ما كان من انتفاخهم... *** احتدّ لديهم البصر بعد طويل العمى والتعامي.. فلقد كشفت الثورة عنهم غطاءهم فبصرهم اليوم حديد.. اليوم تعود مفردة الحقوق إلى معاجمهم بعد تمرّدها وهروبها من جميع حقولهم ومغادرتها ألسنتهم وأقلامهم.. *** بالأمس رضوا باحتلال موقع المتفرّج على حرب ظلّ لزمن طويل يشنّها الطغيان على الإنسان وحقوق الإنسان.. كانوا يرون الأحذية تدوس الإنسان ولكنهم عموا وصمّوا وقد أقنعوا أنفسهم بأنّ ضحايا الجلاّدين طيلة زمن المخلوع لم يكونوا من فصيلة الإنسان الذي جاءت لأجله حقوق الأنسان.. وعندما ظهر من بعضهم تعاطف مع الضحية اكتفوا من الأمر ب"التعاطف الشعوريّ" الذي لا يتجاوز وصف المسموح به من المعاناة.. لقد رضوا بأن يدوس الحذاء على إنسان لم يكن يملك حق الصراخ.. فكانوا يصرخون بدلا عنه بما كان متاحا من الأصوات.. واستمرت التراجيديا طويلا وفق المعادلة التالية: من الجلاّد السياط ومن الضحية الألم ومنهم هم الهمس بدل الصراخ.. وكان لهم من وراء ذلك نفع كثير.. لقد كان شأنهم كشأن طبيب حانث بالعهد من هؤلاء الأطبّاء.. يمسك المريض على مرضه ولا يسعى في شفائه ليدوم له الأكل من زاده... واليوم تسلّم تونس البغدادي المحمودي تنفيذا لقرار قضائيّ من المحكمة إلى السلطات الليبية فتثور الثائرة وترتفع الأصوات الشاجبة ويحتدّ السخط.. وتُتَّهم الحكومة بالعبث واللامسؤولية وسوء التقدير.. ويُتهم الوزير الأول بتجاوز صلاحياته والسطو على صلاحيات رئيس الجمهورية.. - لقد رأوا في الأمر تعديا من الوزير الأول على سلطات رئيس الجمهورية.. وراحوا يبشّرون استنادا إلى ذلك بأزمة دستورية تستحقّ الحكومة على ارتكابها سحب الثقة منها.. وقد تصرّفوا كما لو كانوا حماة رئيس أزعجهم محدودُ سلطاته لصالح وزير أوّل لم يروا لسلطاته حدودا.. وغاب عنهم أنّ التوافق نهج استراتيجي لكلّ من أراد التصدّي للشأن العام بعد الثورة.. وليس بوسع أي فصيل سياسيّ له قدر من الذكاء أن يحتكر قيادة البلاد بمفرده في ظل ما يبدو من تجاذبات وصراعات لا تكاد تنتهي بين الفرقاء.. ورغم ما يبدو من أنّ موقف احتجاج رئاسة الجمهورية من الحادثة إنما كان محدودا بالتصريحات الإعلاميّة لم يتعدّها فقد سعوا بما أوتوا من جهود إلى إفساد ذات بين الحكومة والرئاسة كما يسعى الوشاة بين الأصفياء بالنميمة.. وذلك لعمري هو السقوط الأخلاقيّ عينه... - ورأوا في الأمر سقوطا أخلاقيا للثورة التونسية أتته الحكومة التي أجرت صفقة باعت بمقتضاها مبادئ الثورة مقابل بعض المال.. وهذا الكلام يرقى إلى مستوى التجريح بل التخوين.. ولكم احترف خصوم الحكومة تجريحها وتخوينها.. بل إنّهم لم يتدرّبوا على مفهوم آخر للمعارضة غير التجريح والتخوين وملاحقة الأخطاء وتضخيمها والتغافل عن المنجَزات وتقزيمها.. وقد رأيناهم منذ أسفرت الانتخابات عن نتائجها يغادرون عالم الأخلاق السياسية باتجاه مصالحهم الحزبية والإيديولوجية الضيقة فيقلبون الطاولة على الثورة ويهاجمون الشعب الذي انتصر عليهم بذكائه الفطريّ ووعيه الحادّ وكان بعيدا عن توقّعاتهم وأوهامهم... - ورأيناهم يتنادون لسحب الثقة من حكومة لم يعطوها ثقتهم من قبل.. بل طالما سعوا في إحراجها واجتهدوا وسعهم من أجل الإيقاع بها وهجائها بمختلف النعوت كما لو كانوا هم يملكون مفاتيح سحرية لتجاوز اللحظة دونها.. *** - لقد كنّا ننتظر من المعارضة الوطنية أن تكون سندا للحكومة تنقدها نقدا بنّاء وتقوّم أداءها بقسوة لا تلين وتبذل في الوقت نفسه وسعها في إسنادها حتى تتجاوز البلاد والثورة هذه المرحلة بسلام ونلج معًا مجتمعين غير مفترقين عالم الديمقراطية من أوسع أبوابه متجاوزين أنانيتنا وحساباتنا الضيّقة.. - لقد كان ينبغي للمعارضة الوطنية أن تلتفت إلى أمرين يساعدانها على إصلاح حالها: الأمر الأول: أن تنظر مليّا في أدائها وتنقد نفسها نقدا يساعدها على تشخيص أدوائها وتحديد مواطن خللها وأسباب فشلها حتى تكون أهلا لما تنفتح عليه البلاد من تحوّل ديمقراطيّ واعد... الأمر الثاني: أن تكون عونا للحكومة الانتقالية.. تنقدها وتحاسبها وتقسو عليها.. ولكن تسندها وتكون لها عونا على تجاوز العقبات.. ولكن ذلك إنما يقتضي نضجا ديمقراطيا وتربية على الاختلاف وإيمانا فعليا بالتداول السلمي على السلطة... ولست أرى لكلّ ذلك من حضور لدى نخبتنا السياسية المعارضة... *** ليست قضية البغدادي المحمودي غير ذريعة اتخذها الفاشلون سندا لاستئناف حربهم على حكومة منتَخَبة جاءت بها الثورة.. ولم تدر المعارضة أنّها أشبه ببالون اختبار تلقي به الحكومة للمعارضة لإثارتها وقد علمت انها صارت إلى ضرب من السلوكية مفضوح.. لقد عرفت الحكومة أنّ المعارضة الوطنية لا تعدو أن تكون كائنات بافلوفية فراحت تثيرها لتعلم حجم أدائها ومبلغ صوتها وتكشف للشعب مدى عجزها اليوم وغدا.. وإلى أمد بعيد... إنّ حكومة الترويكا تعلم جيّدا أنّها تتحرك في حقل من الألغام يجعلها كبيرة الحذر لا تُقدم على قراراتها إلاّ بعد دراسة متأنّية وحساب لمختلف التداعيات وقراءة لجميع النتائج المحتّملَة.. لذلك ننتظر منها أن تكشف لنا في جلسة المجلس التأسيسي يوم الجمعة القادم ما خفي من أوراقها حتى تتجاوز هذا اللغط الإعلاميّ المكشوف...