ليس في وسع من يزعم مثلي الانتساب إلى عشّاق السينما أن يغفل عن رحيل كلود شابرول.. هذا المخرج الأليف المختلف الذي ترك رصيدًا هائلاً يتجاور فيه الجيّد والعاديّ بشكل محيّر، حتى أنّي لم أحسب يومًا أنّي سأضيف عددا من أفلامه إلى تلك السينماتيك الشخصيّة التي يكوّنها كلّ منّا لنفسه، مختزنًا فيها الصور التي تؤثّث الذاكرة وتشحن المخيّلة. ترك كلود شابرول أكثر من ستّين عملاً، بعضها أسّس للموجة الجديدة مثل «سيرج الجميل» و«أبناء العمّ»، وأغلبها تحرّر من إسار تلك الموجة. إلاّ أنّه لم يكفّ في نظري عن البحث والمغامرة، حتى في الأعمال المخصّصة للتلفزيون والمستلهمة من نصوص كبار الكتّاب مثل غوته وإدغار بو وفلوبير، وحتى في بعض الأعمال التي عدّها هو نفسه «ضعيفة» معدّلاً ذلك بالقول إنّه «ارتكبها عن سبق إضمار»! تمامًا كما هو الشأن مع عدد من الأعمال التي اعتبرها النقّاد «تجاريّة»! وهي التهمة التي وجّهت أيضًا إلى عبقريّ مثل هيتشكوك! لم يلق شابرول بالاً إلى منتقديه. وشيئًا فشيئًا اكتشف عشّاق السينما أنّهم أمام مبدع حقيقيّ.. عرف في أفضل أعماله كيف يجعل من زاوية نظره الشخصيّة وجهة نظر جماليّة نقديّة فاحصة، تتجاوز سطح الأشياء وتطرح الأسئلة المكبوتة وتكشف عمًا خلف الواجهة البورجوازيّة البرّاقة.. دون الوقوع في الفخاخ التي وقع فيها الكثير من زملائه: الاستعراض، أو الوعظ، أو الرغبة في كسب رضا النخبة الثقافيّة أو السياسيّة، أو البحث عن النجاح الجماهيريّ عن طريق دغدغة الغرائز.. في أفلام كلود شابرول الكثير من الشغف بالحياة المباشرة اليوميّة في ما تتيحه من أكل وشرب وجدّ ولعب وضحك وألم وحلم وصداقة وحبّ.. لكن فيها أيضًا الكثير من الشغف بالسينما وبالممثّلين.. ورغبة في اكتشاف الذات المبدعة من خلال مساءلة تضاريس الطبيعة البشريّة.. من ثمّ اهتمامه بالجريمة اهتمامًا كدتُ أعتبره باثولوجيًّا لو لا أنّنا أمام سينما تمكر بوصفات التحليل النفسيّ.. ومن ثمّ تصويره للمرأة لعبةً لاعبة، كدتُ أقول ضحيّة منتصرة، لولا أنّ شخصيّاته على النقيض من كلّ صورة نمطيّة. ومن ثمّ أيضًا تناوله للسياسة.. وقد قيل كلام كثير عند عرض فيلم «نشوة السلطة» سنة 2006 على مقربة من قضيّة «ELF».. لكنّه ألحّ على أنّ فيلمه ليس سياسيًّا بقدر ما هو رصد لحماقة التسلّط السياسيّ.. مضيفًا أنّ المعالجة السينمائيّة لقضايا مثل قضيّة «ELF» أمر غير ممكن في فرنسا إلاّ بعد مرور ثلاثين سنة.. إلاّ أنّ من الممكن التعرّض إلى جوهر هذه القضايا وإلى الميكانيزمات التي تجعلها ممكنة هي ومثيلاتها، فلا يغيب الواقع ولا تخسر السينما. أستعرضُ هذه الخواطر وأنا بين يدي رحيل الرجل، محاولاً أن أخلُص إلى أسباب إعجابي بتجربته.. أسباب أكثرها خفيّ.. قد يكمن بعضها في صورة أو في لقطة.. وقد يكمن بعضها في تلك الخيمياء التي تحدث لحظة المشاهدة، بيني وبين الفيلم.. أمّا الظاهر من هذه الأسباب فلعلّي ألخّصه في الصورة التي تكوّنت لديّ عنه، من خلال أفلام معيّنة، أصبحت أفلامي. هو أحد مؤسّسي الموجة الجديدة، إلاّ أنّه لم يقع في نرجسيّة المؤسّس.. أعني أنّه ظلّ وفيّا لروح المغامرة على مستوى الكتابة والتصوير والتركيب وبناء الشخصيّات، لكنّه لم يحوّل تلك الروح إلى مجموعة من القوالب، بل استفاد منها، وعرف كيف يُخرج أفلامًا «مقروءة»، غير مملّة ولا مبهمة. وهو مؤلّف سينمائيّ، إلاّ أنّه لم يقع في فخاخ «سينما المؤلّف» التي تحوّلت لدى البعض إلى شعار طنّان، مضمونه: هلوسات الأنا المتضخّمة، المتمركزة على ذاتها باعتبارها محور العالم، المقتصرة في خطابها الفنيّ على تحويل أمراضها الشخصيّة إلى أمراض جماعيّة! وهو إلى ذلك سينمائيّ مثقّف، إلاّ أنّه عرف في عدد كبير من أفلامه، كيف يجعل الممارسة مصدرًا للتنظير وليس العكس، وكيف يوظّف ثقافته بعيدًا عن النخبويّة، وكيف يتصالح مع السينما الشعبيّة بعيدًا عن الشعبويّة. وهو ديونيزوسيّ في حياته وفي أفلامه، خاصّة تلك الناجحة جماهيريًّا ونقديًّا لتميّزها بمزيج نادر من عمق الفكر وخفّة الطرح وسخرية النبرة.. وهو من هذه الناحية ليس بعيدًا عن نيتشة و«معرفته المرحة».. ممّا يسمح لي بالزعم أنّه عرف كيف يصنع «سينما مرحة»، مختلفة عن السينما العصابيّة الهستيريّة الرائجة هنا وهناك. ولعلّ في ذلك ما يكفي في نظري، كي تكون تجربته جديرة بالإعجاب والاحترام والاستلهام.