أربك المنهج الذي اعتمده السيد علي العريض بالتشاور مع جميع الاطراف والتنازل عن كل المسائل الخلافية حسابات عديد الاحزاب، وهو ما مكنه من التوصل بسرعة الى تشكيلة شبه نهائية لحكومته. المتابعون للساحة السياسية اعتقدوا ان البلاد دخلت عنق الزجاجة واصبح عسيرا عليها الخروج من الازمة التي تسببت فيها استقالة رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي، وظن البعض ان السيد علي العريض سيجد امامه تحديات عويصة متعلقة بالآثار السيئة التي تركها سلفه من قبيل ضعف التنسيق مع الاحزاب المكونة للترويكا وكذلك التردد الكبير في اتخاذ بعض القرارات المصيرية بشكل أخل أحيانا بالسير الطبيعي لعدد من المؤسسات.
لكن ما اقدم عليه السيد العريض من انفتاح على جميع الاطراف السياسية والحساسيات الفاعلة في البلاد شكل مفاجأة لم يستطع اغلبهم فك شفرتها وفهم مقاصدها ، واضاع كثيرون الوقت والتركيز في محاولات لتفسيرها سلبا أو ايجابا . اول المشاورات التي اثارت الانتباه انطلقت مع السيدين الباجي قايد السبسي وكمال مرجان اللذين كان الحوار معهما مرفوضا مطلقا فاذا بهما يتحولان دون مقدمات أول الشخصيات الوطنية التي يتم الانصات الى آرائهما، ولعل ما يثبت ان المسألة ممنهجة وليست عفوية الاتصال بكل الاطراف دون استثناء بما في ذلك اطراف المجتمع المدني مثل النقابة الوطنية للصحافيين والرابطة الوطنية لحقوق الانسان .
هذه المساعي كلل بعضها بالنجاح وامكن ايجاد موافقة على الدخول في الحكومة المقبلة من طرف خمسة اعضاء الى حد الان وهي احزاب التكتل والمؤتمر والتنمية والاصلاح وحركة وفاء وكتلة الحرية والكرامة في المجلس التأسيسي وأصبحت الطريق سالكة بذلك لتشكيل حكومة تضم مع النهضة ستة اطراف اي ضعف التآلف السابق خاصة ان الجهات التي اعتذرت عن المشاركة مثل نداء تونس والمبادرة عبرت بكل وضوح عن دعم الحكومة من الخارج وعزمها على مساعدتها على تنقية الاجواء السياسية والاجتماعية خلال المرحلة القادمة تعبيرا منها عن رضاها بمبادرة الحوار الاولى وأملا في تواصلها في المستقبل .
المعارضة الراديكالية في التسلل
المسألة لم تقتصر على الانفتاح على كل الحساسيات الفاعلة في البلاد ومشاورتها الجدية فقط بل تجاوزتها الى تقديم تنازلات هامة ابرزها القبول بتحييد وزارات السيادة الاربع الداخلية والعدل والخارجية والمالية وهو قرار جاء من اعلى هرم حركة النهضة اي الشيخ راشد الغنوشي نفسه الذي عبر عن موافقته على ان تسند هذه الوزارات إلى كفاءات وطنية غير متحزبة، وقد قطع هذا الخيار الطريق على عدد من احزاب المعارضة الراديكالية واسقط كل مناوراتها في الماء بعد ان كانت تتعلل برفض المشاركة في أية حكومة لا يتم تحييد وزارات السيادة فيها ولم تجد ذريعة تتعلل بها وهو ما دفعها الى رفع شروط جديدة اعتبرتها بعض الاطراف في السلطة أنها من قبيل المزايدة والمعارضة من أجل المعارضة وتعطيل جهود الوفاق التي بدأت ملامحها تظهر في الافق فاستنبطت مطلبا جديدا يتمثل في مراجعة التعيينات السابقة في عدد من الولايات ومراكز القرار والادارات العمومية وهي تدرك جيدا ان لا فائدة ترجى من مثل هذا المطلب في هذا الوقت بالذات سوى المماطلة والتحصن بأشياء واهية كما علق على ذلك أحد القياديين في النهضة.
على كل السيد العريض بذل كل جهده لتأليف حكومة وفاق وطني وارسل الى كل الاحزاب يشاورها ويعرض عليها المشاركة وبذلك يكون قد اقام على الجميع الحجة في حرصه على انجاح المرحلة القادمة وكل من رفض وامتنع فما عليه الا ان يتحلى بروح المسؤولية خلال المرحلة المتبقية من الفترة الانتقالية ، خاصة ان ملامح التشكيلة الحكومية بدأت تظهر حسب بعض التسريبات وتتلخص في مجملها في المحافظة على عدد كبير من وزراء الحكومة السابقة في مواقعهم مثل عبد الوهاب معطر وخليل الزاوية والياس الفخفاخ ومحمد بن سالم وعبد اللطيف المكي وعبد الكريم الهاروني مع ادخال عدد من الوجوه التي تنتمي إلى الأحزاب التي وافقت على المشاركة لشغل بقية الوزارات وتحييد وزارات السيادة مع اعطاء دفع سياسي قوي لرئيس الحكومة باسناد منصب وزير دولة للشؤون السياسية إلى السيد نورالدين البحيري. وبذلك تكون اقصى فرص النجاح لتشكيل الحكومة قد تحققت ولا يبقى سوى تقديمها للسيد رئيس الجمهورية خلال الساعات القليلة القادمة .