لا أعرف بالضبط ذلك العقل العبقري الذي تفتّق على ضرورة فرض إتاوة على كل من يتجاوز دخله 1700 دينار شهريا. ومن سوء حظ هذا الدماغ الوقاد أنه أعلن في نفس اليوم عن تخفيض تصنيف تونس من طرف مؤسسة «موديز انفستورز» مبشّرة بمزيد الخفض، وذلك بسبب الاوضاع السياسية التي تمر بها البلاد والتي ظل حكامها الجدد يفاخرون بإنجازات حكومتها العتيدة، ويعكّرون في نفس الوقت أوضاعها السياسية بدأب وتفان كبيرين. فإذا بهم ينجزون للتونسيين مكسبا جديدا تمثل في إتاوة على أجور أناس هدتهم الديون وأغرقتهم الالتزامات الأسرية. فمن من هؤلاء الذين يتجاوز دخلهم ال1700 دينار لم يتورّط في قرضين على الأقل، واحد للسكن والآخر للسيارة، وهو ما يأتي على ثلاثة أرباع الدخل، هذا اضافة الى مصاريف تعلم الأبناء والمصاريف اليومية والفواتير الشهرية.
فما الذي سوف يتبقى يا ترى؟
بطبيعة الحال لا شيء، ومع ذلك تزيد هذه الحكومة في تفقيرهم، وتأخذ من أجورهم بلا وجه حق وتغتصب أموالهم القليلة بدعوى التضامن الوطني وهي فرحة مسرورة بهذا الإبداع الذي لم يسبقه اليها عقل ولم يصل اليه خيال. إن هذا الإجراء يدل على عجز هذه الحكومة ويؤكد فشلها ويكشف ضيق أفقها ومحدودية وزرائها بل وصفاقتهم أيضا. فهو اجراء يدعو الى الخجل حقا، ويجعل الواحد يتساءل في اي كوكب يعيش هؤلاء؟ وفي أي واقع يتحركون؟ وإذا كانت مشاكل الدول تحل بهذه الطريقة، فإن أي «عطّار» بإمكانه أن يصبح مسؤولا ساميا ما دامت علميات الجمع والطرح تتم على هذه الشاكلة وبمثل هذا الإجراء. وفي نفس الوقت تهدد هذه الحكومة ومن والاها رجال الأعمال وتمنعهم من الحركة وتحول دونهم ودون الاستثمار إمعانا في ثوريتها وتأكيدا على شفقتها على الشعب الثائر وتشديدا على نيتها في محاسبة الفاسدين، وهي عوض أن تخلق ثروة وتراكمها تمتص جهود الناس وتسطو على جيوبهم وتسرق من جهدهم. أما سياسيا فهي تمارس البلطجة وتؤسس للعنف وتدعو الى الاقصاء، وتمنع اي مناخ حر وتشجع روابط حمايتها، وتتهم الأبرياء وتبرّئ المذنبين. وهي ماضية في هذا الغيّ متشبثة به مصرة عليه رغم وقوفها مرات ومرات على مخاطره داخليا وخارجيا ورغم أنها رأت بأنها لم تجن من ذلك الا الشوك.
إن التونسيين منذ مدة لا يعيشون الا على وقع المشاكل والمثابرة في خلقها ولا يُروّج لهم الا أنهم ضحايا فاسدين ماليين ومستبدين سياسيين وأن حكومتهم الموقرة يشرف عليها مناضلون شعبيون ديمقراطيون لهم من النوايا الطيبة ما يجعل الصحارى جنات عدن، ولهم من الفعل والانجاز ما صحّر بقية ما اخضرّ في بلادهم الخضراء. وبطبيعة الحال فإن هؤلاء معصومون من الخطإ، فاهمون لما يحصل حتى في المريخ، متأكدون من أن تونس سوف تقلع بهم ذات يوم. لكن المشكلة في المؤامرات والدسائس، والعرقلات، والقوى المضادة التي حالت دون الوقوف على كفاءتهم، وجدارتهم وقدرتهم.
ولا بأس من البدء بعقاب أصحاب الدخول التي تتجاوز ال 1700 دينار (وما أدراك ما هذا المبلغ) فهؤلاء استفادوا من النظام السابق، وارتقوا في سلّمه ولم يشعروا بالفاقة والاحتياج واثقلوا كاهل صندوق التعويض. فلماذا لا تمارس ضدهم القوانين الثورية؟ ولماذا لا يساهمون في هذا الجهد الوطني الخلاّق الذي رسمته الحكومة؟ ولماذا لا ينصاعون لهذا الابتكار الجديد؟
بمثل هذا الاجراء تبشر حكومة انتقالية مؤقتة، فأي اجراءات سوف تتخذها لو كانت دائمة مكتملة الشرعية ومستندة على 5 سنوات للحكم؟ إن النتيجة التي سوف تحصل وقتها، لا تخرج عن واحدة من اثنين، اما الافلاس التام لهذه البلاد، او التخلي الكامل عن كل القطاعات الاقتصادية التي مازالت تشرف عليها الدولة ومنها القطاعات الاستراتيجية وصندوق التعويض كله... ذلك ان قدرات هؤلاء لا تتجاوز هذين النتيجتين، أما الحديث المرسل عن جعل تونس مثل سويسرا (وهات من هذه الترهات) فإنه لا يعدو ان يكون مماثلا لحلم طفل بالقدرة على التحليق مثل العصافير، أو على ترويض أسد او حتى على إدارة مصنع حلوى.
إن هؤلاء يتكلمون كثيرا ويفتون كثيرا وكل فرد منهم عبارة عن علاّمة استوعب كل العلوم الاقتصادية والثقافية والعلمية وحتى العسكرية والأمنية. وهو مطلع على حقائق العالم شرقه وغربه، وفاهم لكل ما يدور فيه ويجري وفوق هذا ثائر أبدي ومناضل مشهود له، فكيف لا يدير حتى شأن قارة كاملة لا بلد صغير مثل تونس.