تعيش حركة النهضة حالة من العزلة الداخلية والخارجية وذلك منذ أشهر عديدة، عندما صعّدت من لهجة خطابها السياسي، واتهمت أفرادا وأحزابا بالتآمر ضدها، واقتربت من بعض الجماعات التي تدعو الى العنف وتمارسه. فكانت النتيجة ان تهرأت شعبيتها، وأن نفرت منها الاحزاب السياسية الرئيسية، وأن غاصت في أوحال شأن يومي لم تعد قادرة لا على السيطرة على أحداثه، ولا على تتبعها والتقليل من تأثيرها. وأتت عملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد لتجد النهضة نفسها متهمة سياسيا في مرحلة أولى بالاغتيال، ثم أصبح مطلوبا منها ان تثبت أن ليس لها مسؤولية مادية مباشرة في العملية التي مثلت أكبر منعرج تشهده تونس بعد 14 جانفي.
وقد تفطّن كل من السيد حمادي الجبالي الأمين العام لهذه الحركة والسيد عبد الفتاح مورو نائب رئيسها الى الوضعية الشائكة التي أصبح عليها حزبهم، والى المخاطر المحدقة به. فبادر كل واحد منهما الى شيء يصنعه. الأول اختار ان يطرح حكومة تكنوقراط لاحزبية، والثاني ذهب صوب كسر «تابوهات» وممنوعات وضعتها الحركة بغاية سجن الآخرين بين أسوارها فإذا بها تنتهي بوقوع حركة النهضة فيها. ولئن لم يحقق لا السيد حمادي الجبالي ولا الشيخ عبد الفتاح مورو غاية كبرى في هذا الصدد، الا انهما حلحلا وضعا وفتحا كوّة وعبّدا طريقا، بدأت بعض أطراف النهضة تتساءل على الأقل عن جدواها بعد ان كانت ترفض اي حديث حولها، وتحرّم كل اقتراب منها.
ولا شك انه توجد صعوبات كبرى في النهضة وحولها، تحول دون ان تتشجّع هذه الحركة، وتنخرط في واقعها، وتطلّق خطابها القديم، وممارساتها المعتادة. لذلك هي الآن مترددة ولأنها كذلك فإنها سوف تعتمد على طريقتين في سلوكها السياسي خلال المرحلة المقبلة:
أولا ارسال بعض الرسائل المطمئنة لكن المبهمة وغير الواضحة التي تشير الى تغيّر فيها. ثانيا اعتماد المناورة ومحاولة شق صفوف المعارضة التي ترفض التعامل معها، كلاّ من منطلقاته وأسبابه.
والنهضة مورطة في علاقات أخرى لا تريد ان تخسرها خصوصا انها تعتقد بأن تلك العلاقات التي تجمعها مع مجموعات «راديكالية» إن هي خسرتها فسوف تظهرها كحركة مهادنة ومساومة وغير ثورية. وتعتقد النهضة ان تفاعل الجماهير الشعبية معها إنما يكون عبر إلتزامها بخط ثوري وانخراطها في تمشّ راديكالي. الغريب انها لا تعلم انه لا وجود له في الواقع، والأغرب أنه كان وراء انفضاض أناس كثّر من حولها بل وشرائح اجتماعية كاملة لم تعد ترى في هذه الحركة الا حزبا غير قادر على تحقيق مكاسب حقيقية وساعيا بالمقابل الى فرض ثقافة جديدة ومرفوضة لدى تلك الشرائح.
فلماذا لا يفكّون نهائيا الارتباط معه؟
جذور السيد عبد الفتاح مورو، ودقة تحليله للأوضاع، وعلمه بالشخصية التونسية، جعلته يقف على هذه الحقائق، ويرى مسبقا أي مستقبل ينتظر حزبه فيما لو هو رفض أن يتغيّر جذريا. وأي مصير سوف يواجهه لو هو ساير هوى أن يوجد قاعدة لجبهة اسلامية موحّدة، أو هو حتى راهن على تلك الجماعات التي تراهن على الراديكالية. وممارسة السيد حمادي الجبالي لرئاسة الحكومة، ووقوفه على حقائق جمّة جعلته يرى أن ما كل ما قيل وتردّد ورسخ في الأذهان حول ال 60 سنة التي تدعي حركته أنها لم تحقق لتونس الا الخراب والدمار، كان صحيحا، وأن ادارة شؤون الدولة وتحقيق مكاسب لها ليس بالسهولة التي تزعمها الايديولوجيات بل لعلّه كان سهلا بنقيض ما تدعيه، وبعكس ما تعتقده.
وهذا كلّه لا يشير الى وجود حمائم وصقور بتنظيم النهضة، (ان هذا التصنيف نفسه تردّد في العالم العربي كإشارة لما تحتويه اسرائيل من عناصر سياسية عند مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات بالسلام وعاد للتردد بعودة المحافظين الجدد في أمريكا) بل الى ثقافات مختلفة، وتجارب متناقضة، ورؤى لا شيء يجمع بينها. وإن كانت الغلبة فيها الى تلك الثقافة المنفلتة التي تعتمد التجريب السياسي، وتوتر الأوضاع، ولا ترى تبعات ما تفعله وتؤسس له الا بعد حصول الأزمات،وتكاثر المطبات.
لذلك كله يجدر بهذه الثقافة أن تعي بأن مجال المناورة أمامها محدود، خصوصا بعد أن فقدت ثقة كل الأطراف، وبعد أن ترشخ في الأذهان أنها لا تستحي أن تقول الشيء ونقيضه في نفس اليوم، والأكثر أنها متورّطة ومنعزلة.