مخاوف وهواجس تساور هذه الأيام التونسيين على خلفية الحديث الدائر حول المؤسسة العسكرية وما رافقه من اعتزام الوزير الاستقالة واعترافه ببلوغ الجيش مرحلة «الإنهاك». ليلة 11 جانفي 2011 ، تناقل التونسيون عبر الأنترنات صورة أول دورية عسكرية مسلحة تأخذ مكانها إلى جانب الأمن أمام ساحة الباساج بالعاصمة . وبقدر ما كانت تلك الصورة صادمة للتونسيين ، إلا أنها مثلت فيما بعد « رسالة طمأنة» من المؤسسة العسكرية لجميع المواطنين خاصة عندما احتدت أحداث الثورة أيام 12 و13 و14 جانفي ثم في الفترة الموالية عندما خاف التونسيون من تبعات الثورة . وطوال الأيام والأشهر الموالية ل14 جانفي شهدت اغلب المدن التونسية انتشارا لقوات الجيش الوطني وسط ترحيب شعبي كبير.
معنويات ..لكن
ذلك الترحيب الشعبي كان له الأثر الجيد على أداء المؤسسة العسكرية حيث رفع من معنويات كل العاملين بالجيش الوطني وزاد في احساسهم بأهمية المسؤولية وفي تشبثهم بصفة «الجيش الجمهوري » .
لكن هل تكفي المعنويات والمشاعر والأحاسيس وحدها لعمل الجيش؟ سؤال هام أجاب عنه بطريقة ضمنية وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي بمناسبة تصريحه الأخير لقناة «نسمة تي في» عندما ذكر أن الجيش أصبح اليوم مُنهكا مُتعبا بعد انتشاره المتواصل خارج الثكنات منذ جانفي 2011 إلى اليوم .
مُنهك
26 شهرا تقريبا هي الفترة التي قضتها القوات العسكرية خارج الثكنات ، في حين أن المعدل العالمي لبقاء الجيش خارج الثكنات حسب الوزير لا يتجاوز 3 أشهر.. ورغم غياب الأرقام الواضحة حول تفاصيل هذا الانتشار وعدد المشاركين فيه إلا أن عديد المؤشرات تقول أن أغلب المنتمين للمؤسسة العسكرية عملوا طيلة الفترة المذكورة – لفترات متفاوتة – خارج الثكنات بنسق مرتفع واستثنائي . وكان من الطبيعي أن يتسبب لهم ذلك في الارهاق البدني والنفسي . فرجال الجيش عملوا صيفا وشتاء وتنقلوا عبر مختلف أرجاء البلاد الحضرية والريفية والجبلية والصحراوية . وأكثر من ذلك قضى كثير منهم فترات مطولة نسبيا بعيدا عن عائلاتهم ولم يقدر كثيرون أيضا على التمتع بإجازات الراحة المعتادة .
أَمنيّة
تقول المؤشرات أيضا أن المهمة التي حظيت بالجانب الأوفر من عمل قوات الجيش خارج الثكنات طيلة العامين الماضيين كانت أمنية بالأساس . حيث كان الجيش حاضرا بكثافة إلى جانب قوات الأمن لحراسة المؤسسات العامة والخاصة وللتصدي لمظاهر العنف والشغب ولفك الاعتصامات وغلق الطرقات ولمطاردة المجرمين وإلقاء القبض عليهم فضلا عن تأمين السير العادي للامتحانات الوطنية والانتخابات والتظاهرات السياسية والحزبية المختلفة والتظاهرات الثقافية والمسيرات الشعبية والوقفات الاحتجاجية .. بل أن الجيش ذهب حد المساهمة في تنظيم حركة المرور . ومعلوم أن المهام الامنية ليست من المشمولات الاصلية للجيش بل هي من ضروريات حالة الطوارئ التي تسمح للمؤسسة الامنية بأن تطلب يد المساعدة من المؤسسة العسكرية .
حدود
إلى جانب ذلك واصل الجيش القيام بالمهام العادية الموكولة إليه لا سيما حماية الحدود البرية والبحرية والجوية خاصة أن بلادنا أصبحت عرضة للمخاطر القائمة حول الحدود الغربية والشرقية مثل تهريب السلع والسلاح ومخاطر الارهاب وغيرها . غير أن تصريحات وزير الدفاع الأخيرة تشير إلى امكانية التخوف من عدم قدرة الجيش على القيام بهذه المهمة ( تأمين الحدود ) بالوجه الكافي ، ليس بسبب التقصير ولكن بسبب استنفاد جانب هام من المجهود العسكري في المهمة الامنية ( التي ليست من مشمولاته الاصلية ) التي تفرضها حالة الطوارئ .
تنمية
يقوم الجيش بدعم مجهود الدولة لتنمية البلاد ، حيث تقوم مصالح وزارة الدفاع الوطني بإنجاز المشاريع التنموية والتدخل في مجال البنية الأساسية إلى جانب توظيف كفاءات عسكرية في خدمة الفلاحة وفي حماية البيئة والمحيط وفي النجدة والإنقاذ ومجابهة الكوارث ..
هذه المهام الهامة للجيش الوطني تبدو بدورها قد ذهبت «ضحية» انشغال المؤسسة العسكرية بالمهام الامنية المتعددة ، حيث ان الامكانيات البشرية المتوفرة لوزارة الدفاع الوطني لم تعد قادرة على تغطيتها بالوجه الكافي في ظل تخصيص جانب كبير منها للمهمة الأمنية . وهو ما من شأنه التأثير سلبا على مسار التنمية الاقتصادية بالبلاد .
طوارئ
حسب ما لمح إليه وزير الدفاع الوطني ، فان الوضع السياسي في البلاد مازال غير مستقر ولا تبدو هناك بوادر استقرار في القريب العاجل بحكم غياب أجندا سياسية واضحة لتحديد مواعيد الانتخابات واصدار الدستور الجديد وهذا ما يدفع في كل مرة إلى التمديد المتواصل في حالة الطوارئ بما يفرض على الجيش البقاء في حالة استعداد خارج الثكنات حتى يكون على ذمة وزارة الداخلية عندما تطلب منه المساعدة. هذه الوضعية باتت تفرض اليوم على السلطة أن تعجل بانهاء الاستحقاقات السياسية المنتظرة حتى تستقر الاوضاع في البلاد ولا تعود هناك حاجة لحالة الطوارئ حتى يمكن للجيش العودة إلى الثكنات ويسترد أنفاسه وقواه ويقدر بالتالي على القيام بدوره الطبيعي بشكل جيد .