لم يأمن المفكّر العربيّ على حياته لا قبل 2011 ولا بعدها! إنّه يتيمُ العائلة في «النظام العربيّ» الفاسد على امتداد العقود الماضية! وهو «الحائط القصير» المُبَاحُ لزبائن باعةِ الفتوى المتجوّلين طيلة السنتين الماضيتين! سبب كافٍ كي نستغرب صحوةَ وزراء الداخليّة العرب فجأةً من سُباتهم المدجّج بالقمع لإقرار «الأمن الفكريّ» على رأس المواضيع المطروحة على طاولة النقاش في اجتماعات الدورة الثلاثين المنعقدة بالرياض بعد يومين؟ ما صلةُ وزراء الداخليّة العرب بالفكر؟
تمّ تخوين المفكّر باسم القانون فبطشت به الأجهزة الرسميّة! وتمّ تكفيره باسم فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان فبطشت به عقولٌ أُفرِغَت من كلّ قدرة على التفكير! وفي الحالتين كانت وزارات الداخليّة إمّا فاعلة وإمّا متواطئة!
من حقّ مفكّرينا إذنْ ومن حقّ مثقّفينا بشكل عامّ أن يشعروا بالريبة وأن يُطلِقوا صيحات الإنذار وهم يرون وزراء الداخليّة العرب يخوضون في شأن الأمن الفكريّ وهُم أنفسهم الذين ما انفكّوا يقمعون كلّ فكر حرّ!!
في وسع أيٍّ منَّا طبعًا أن يبحث عن معنى الأمن الفكريّ الذي يقصده وزراؤنا! وأستطيع منذ الآن أن أؤكّد للجميع أنّ العثور على عشبة الخلود أسهل من العثور على هذا المعنى!
ليس ذلك مرتبطًا بالمفهوم نفسه بل لأنّ تعويم المفهوم مقصود وضروريّ، تمامًا كما كان الشأن بالنسبة إلى مفهوم الإرهاب. كلّما كان المفهوم غامضًا وفضفاضًا سهُل تحميله المضمون ونقيضه حسب مقتضيات الحاكم «الوصيّ» على شعبه!!
«الوصاية على الشعب القاصر»! هذا هو المدلول الحقيقي لمفهوم الأمن الفكريّ الغالب على عقيدة وزراء الداخليّة العرب حتى إشعارٍ آخر! وهي وصايةً غالبًا ما يُبَرّرُ لها إمّا بدعوى تحصين الشعب من الغزو الفكريّ وإمّا بدعوى وقايته من المتطرّفين وحمايته من التطرّف.
من السهل الانتباه طبعًا إلى أنّ الغزو الفكريّ الوحيد الذي يُواجَهُ حتى الآن هو الغزو الذي يفتح الباب أمام قِيَم التحرّر وحقوق الإنسان! وأنّ التطرّف الوحيد الذي يُحارَبُ حتى الآن هو التطرّف الذي لا يكون الحاكم مستفيدًا منه!
هكذا يستطيع الأمنيّون باسم الأمن الفكريّ استباحة الحياة الشخصيّة والتنصّت على المواطنين والرقابة على الإبداع ومنعَ التبادُل الثقافيّ والانقلاب على استقلاليّة الإعلام.. وهكذا يبيحون لأنفُسهم محاصرة مواقع التواصل الاجتماعيّ كال«فايس بوك» وغيرها الذي أصبحت خارج السيطرة.. وهكذا يُمكنهم تبرير دسّ أُنوفهم في برامج التربية والتعليم والوصاية على الثقافة وحتى التجسّس على العقول والضمائر!
لا شيء يُشير حتى الآن إلى أنّهم غيّروا عقيدتهم ووضعوا حقوق الإنسان نُصبَ أعيُنهم! وعلى الرغم من ذلك لم يتزحزح مجلس وزراء الداخليّة العرب عن مقرّ إقامته التونسيّ! وكأنّ النظام الجديد في تونس لا يشعر بأيّ حرج في أن يُواصل استضافة هيكل تتجسّد فيه الثورة المُضادّة وتتجسّدُ فيه ذهنيّةُ النظام العربيّ القديم بكامل عدّتها المنهجيّة وعتادها الفكريّ!
والأغرب أنّ هذا المجلس مزروع ببعض المُقرّبين من النظام السابق ولا أحد منهم دِيسَ لهُ على طرفٍ حتى الآن! وكم أرجو أن يكون الأمر مرتبطًا بإجراءات بيروقراطيّة مؤقّتة كي لا أُضطرّ إلى استنتاج من اثنين: إمّا أنّهم ثوريّون وهم آخر من يعلم! وإمّا انّهم نالوا رضا النظام الجديد ونحنُ آخر من يعلم! أيًّا كان الأمر فإنّه لا يخلو من مفارقة!
وهل من مُفارقة أكبر من انكباب الفكر البوليسيّ على الخوض في مسألة البوليس الفكريّ؟! وهل من مُفارقة أكبر من وضع هذه المسألة بين أيدي وزراء ربّما كانوا بالأمس القريب يأخذون العلم عن بن علي نفسه وهو المنفيّ اليوم على مقربة من مكان انعقاد مؤتمرهم!
ولعلّه ينظر إليهم فيتذكّر أحد زعماء اليمين في أمريكا اللاتينيّة حين وُضِع في السجن بعد انقلاب عسكريّ فقال: عجبًا! أنا في السجن بينما أفكاري تحكم!!