على المرء أن يجهد نفسه في فهم ما يجري على المسرح الدولي خصوصا في عصر العولمة حيث تتآكل الحدود بين القارات والثقافات وهذا ما بوسع المثقف العربي أن يفعله. يجب أن نضع في أذهاننا أن تغير المفاهيم يرتبط ضرورة بتغير الظروف التي تنتجها والسياسة هي أيضا تتغير وفقا لتغير المعطى الخارجي لكن طبيعة التعامل تبقى واحدة فهي تميل دائما إلى الهيمنة وبسط النفوذ على العالم» فالحية تبدّل ثوبها ولا تبدل طبعها». ظهرت في القرن العشرين جملة من المفاهيم التي كان يقتضيها الواقع والظروف السياسية القائمة في تلك الفترة من هذه المفاهيم نذكر مفهوم الايديولوجيا، الصراع الطبقي، الوعي الطبقي، القومية، الامبريالية، حق الشعوب في تقرير مصيرها لكن هذه المفاهيم تغيرت بتغيّر الواقع والظروف التي أنتجتها فاختفت لتحلّ محلّها مفاهيم جديدة لها علاقة بالواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والفكري العالمي فهي مفاهيم تأسس نظاما عالميا جديدا تغيرت فيه طبيعة المصلحة فتغيرت وفقا لذلك طبيعة التعامل لعلّ أكثر هذه المفاهيم شيوعا وانتشارا في العالم هي: النظام العالمي الجديد، نهاية التاريخ، صدام الحضارات، العولمة، وحوار الحضارات وهذا التعامل الجديد مع المعطيات الجديدة تغير معه مفهوم الصداقة الى مفهوم عداوة فأصدقاء الأمس هم أعداء اليوم نفهم من ذلك أنّ الولاياتالمتحدةالأمريكية تسعى الى تشويه وعي ضحيتها بأن تجعل منها صديقا وعدوا وفقا لتغير مصالحها فابن لادن الذي أعلنت الولاياتالمتحدةالأمريكية حربا ضدّه بعد أحداث 11 سبتمبر كان في الحقيقة صديقا لها في صراعها مع المعسكر الاشتراكي والتصدّي للمد الشيوعي في المنطقة وبعد إتمام المهمّة وطرد الاتحاد السوفياتي سابقا من أفغانستان 1979 عادت بعد 11 سبتمبر لتعلن حربها ضدّ الإسلام فكان عليها إلاّ أن تتخذ هذا الرجل تقيّة لضرب الإسلام وإضفاء شرعية على حروبها التي ستخوضها باسم مقاومة الإرهاب ثمّ إننا نقرأ ما جرى في الوقت نفسه من تحالف بين الاحتكارات الصناعية العسكرية واحتكارات النفط ما قاله هارولد براون وزير الدفاع الأمريكي بتاريخ «25 / 02 / 1979 إنّ تدفّق النفط من الشرق الأوسط هو بوضوح جزء من مصلحتنا الحيوية وإنّه يبرر أي فعل مناسب بما في ذلك استخدام القوّة». لقد تمكّن هذا التحالف الصناعي العسكري النفطي ومن سار في دربه من المفكرين والإعلاميين من خلق مناخ شعبي يعادي النمط السياسي الذي اتبعه جيمي كارتر معاداة لا حدّ لها حيث سعت هذه الكتلة السياسية المنافسة لجيمي كارتر من اتخاذ أزمة منتصف السبعينات النفطية ورقة تظهر من خلالها أنّ سياسة كارتر ضعيفة وغير قادرة على حماية الشعب الأمريكي خاصة من هيمنة المعسكر الاشتراكي وان الشعب الأمريكي مهدد في أمنه إذا ظلّ متمسكا بهذه السياسة وهذا ما يفسر خسارة هذا الأخير في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية رغم كل الزخم الذي استمدّه من انجاز معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وهكذا فاز ريغان بالرئاسة ومعه نائب جورج بوش (الأب) وراح ريغان يطرح أكثر الشعارات تطرفا حتى أن العالم بات يترقب حربا عالمية ثالثة على الأبواب فكان يدعو بلا هوادة ودون كلل الى القضاء على ما اسماه « بإمبراطورية الشر الاتحاد السوفياتي» وهذا ما عبرت عنه هلين توماس الصحافية الأمريكية في قولها:» وما فعله ريغان هو أنّه دخل سباق التسلح بينما كان الاتحاد السوفياتي ينهار وكانت ضربته هي الضربة القاضية» فبادر الى تجديد سباق التسلح بين المعسكرين غذّاه صقور الإدارة الأمريكيةالجديدة بالحديث المروع عن غزو سوفياتي مدرّع قد يجتاح الجناح الشرقي للحلف الأطلسي في أيّ وقت وهو ما شفع لإدارة ريغان أن تذهب في مشروعها التسلحي الى أقصاه ليبلغ ذروته مع إعلان» حرب النجوم» كانت هذه السياسة العسكرية تنفق بلايين الدولارات لصالح احتكارات الصناعة العسكرية من أهداف ذلك تحميل الغريم السوفياتي أعباء فوق طاقته. في مثل هذا السباق الذي أعلنه ريغان وصقوره للتخلص من إمبراطورية الشر تحت مقولة» التفوّق السوفياتي إلا أنهم كانوا مقتنعين بأن الاتحاد السوفياتي كان عبارة عن عملاق بساعدين عسكريين هائلي القوّة وساقين اقتصاديتين ضعيفتين مما يسهل انهياره في حال جرّه الى زيادة الوزن فوق حمولته أي بزيادة انفاقه العسكري على حساب وضعه الاقتصادي والاجتماعي المتردّي وهكذا ثقل العبء مع سياسة حربية جامدة في ظلّ فترة بريجنيف مع مواجهة تحديات استنزافية تتمثّل في تصعيد حرب العصابات في أفغانستان، قيام الثورة الإسلامية الإيرانية، والحملة السياسية الدينية الكاثوليكية الغربية عجل بانهيار المعسكر الاشتراكي حرب الخليج في عيون خائضيها لا وقت لإضاعة الفرص كما أنّ الزمن غير ملائم للحديث عن الإنسان والإنسانية هذا الشعار لم يعد مربحا حسب تجار الحروب. إن التحالف الصناعي العسكري النفطي فبمجرد غياب المعسكر الاشتراكي سارع لاغتنام الفرصة لتحقيق أهم قفزة سياسية عسكرية نفطية عن طريق الحرب الدولية التي شنتها إدارة بوش الأب على العراق بدعوى تحرير الكويت أدّى ذلك الى تثبيت الوجود العسكري الأمريكي المباشر والدائم في منطقة الخليج العربي كما أدّى الى اختلال الموازين الإستراتيجية للقوى الإقليمية في المنطقة لصالح إسرائيل» إخطبوط الشرق» أو مشروع دولة إسرائيل الكبرى التي تمتد من دجلة والفرات الى النيل وبداية هذا المشروع هو التخلص من القوى التي تشكل عائقا أمام تحقيقه وهنا صار من المؤكد التذكير بما قاله بوش الأب لزعماء المنظمات اليهودية الأمريكية عندما نشب خلاف بينه وبين اسحق شامير بشأن التسهيلات المالية لاستعاب المهاجرين من الدول الاشتراكية اذ قال:» ماذا تريد إسرائيل مني أكثر من أنني دمرت لها العراق»؟ وكذلك ما قاله وزير الخارجية الأمريكي جمس بيكر للرّئيس الراحل حافظ الأسد عندما زاره ليدعو سورية من اجل المشاركة في مؤتمر مدريد. «انتم العرب خرجتم مهزومين من حرب الخليج». ضرورة خلق العدو جاء في قول احدهم:» إذا أردت أن تخلق أعداء فعليك أن تتغلب على أصدقائك أما إذا أردت أن تخلق حلفاء فعليك أن تجعل أصدقائك يتفوقون عليك». أن سقوط الاتحاد السوفياتي لم يكن مجرد سقوط نظام حكم معين ولا هو مجرد انحلال تكتل بين دول أو تفتت معسكر بل هو سقوط نظام اجتماعي اقتصادي فكري كان يطرح نفسه كمشروع ضروري للمستقبل، مشروع حضاري جديد سمي بالنظام الاشتراكي العالمي الذي يعتبر بمثابة تاريخ جديد للإنسانية وهذا المشروع الحضاري الذي وعدت به الاشتراكية الإنسانية خاض صراعا مع النظام القائم الذي خرج من رحمه فكانت أسلحة الصراع شاملة تضمنت الاقتصاد والسياسة والقيم والفكر والعلاقات الدولية لكن انتصار احدهما على الآخر جعل الطرف المنتصر يعيد ترتيب الخارطة الجغراسياسية والجيوستراتيجية في المنطقة ترتيبا يتوافق مع مصالحه السياسية والاقتصادية والعسكرية وهو ما أدّى الى أن تفقد عبارة العالم الثالث معناها اذ تحوّل الى مركز العدوانية وبموجب هذا التحول تغيرت طبيعة تعامل أمريكا مع العرب وهذا التغير يصرح به دانيال بايبس في قوله:» إن العالم الإسلامي إذا لم يتم استعابه عن طريق التحديث فانه سيواصل عناده وجهله الى حد إيصال الغرب الى الجحيم» هذا هو دانيال بايبس الناطق باسم المشروع الأمريكي الإسرائيلي في الشرق الأوسط وهو من المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية ولوران موري فيتش هو الآخر لم يحد عن هذا المخطط الأمريكي ففي 10 جويلية 2002 صاغ هذا الأخير بيانا باسم مؤسسة راند لحساب مجلس سياسات الدفاع الأمريكي جاء في التقرير ما يلي: يجب البدء بالعراق، المملكة العربية السعودية، أما مصر فقد دفعت الثمن وقد خصص صاحب هذا المقال قسما لما أسماه الأزمة في البلاد العربية هذه الأزمة هي المبرر الذي يكسب الولاياتالمتحدةالأمريكية مشروعية التدخل لإصلاح الوضع في هذه الرقعة الجغرافية يقول:» إن أزمة العالم العربي هي أزمة هيكلية أي ليست أزمة عارضة عمرها حوالي مائتي سنة أي منذ ما يصطلح عليه العرب بعصر النهضة العربية وأما هذا العالم قد تخلف عن الثورتين الأساسيتين في العصر الحديث وهما الثورة الصناعية وهو الآن بصدد خسارة الثورة الرقمية خسارة نهائية في ما يعرف بالهوة الرقمية إضافة الى ما يعرف من نقص فادح في الموارد الذاتية لمجابهة العالم الحديث» ويذهب الى القول بأن الصراع القائم بين العالمين العربي والغربي وصل الى نقطة اللا عودة وان مشاكل العالم العربي الخاصة تكبل قدرته على المواجهة وتمنعه من التقدم ولذلك يسعى الى تصدير أزمته الى باقي العالم وهو في ذلك يخلص الى الطريقة التي يتم بها التغيير في العالم العربي وهي طرقة مغلقة تعتمد المؤامرة والقتل في حين أن العالم الغربي لا يلجأ الى ذلك إلا في حالات نادرة وان الفئات القبلية والعشائرية التي بيدها الحكم تغلق بإحكام كل المنافذ المؤدية الى التغيير منبها الى أن المؤامرات والقتل هي الوسيلة الوحيدة التي انتهجها العالم العربي لإحداث أي تغيير سياسي مؤكدا على أن كل الدول العربية إما فاشلة وإما مرشحة لفشل قريب هذا العالم العربي افلح في إنتاج شيء واحد هو العنف وان هذا العنف في ترجمته العربية ليس هو فن مواصلة العمل السياسي بكيفية أخرى بل أن العنف هو السياسة والسياسة هي العنف ومن الآن على الولاياتالمتحدةالأمريكية أو الغرب عموما أن يفهم أن ضرورة تغيير هذا العالم العربي قد صارت مطلبا أمريكيا وغربيا بالدرجة الأولى ولا يمكن أن ننتظر من هذا العالم تغييرا لأنه ببساطة لن يتغير لأن أزمته كما ذكرنا هيكلية ذلك أن ما حدث في 11 سبتمبر جعل أزمة هذا العالم تخرج من حدوده وهذه الخطب الجلل كان ناتجا عن الفيضان الذي يعيشه العالم العربي إذ أن تداعياته لن تقف بل ستستمر طويلا وان رد الولاياتالمتحدةالأمريكية سيكون حاسما لما حدث وسيحدث كل هذه النقاط السلبية التي أوردها موري فتش في تقريره تؤكد ما تخطط له أمريكا وإسرائيل متخفيتان تحت غطاء القول بان العالم العربي عاجز عن إحداث النهضة بمفرده لذلك يصبح تدخل أمريكا ضروريا لإنقاذ هذا العالم من الاندثار. هذا التشخيص السيئ يكمن على نوايا سيئة بناء على انه لا توجد على الإطلاق ايديولوجيا بريئة وتتنزل ضمن هذا التشخيص رؤية هذه الأوساط لمشكلة الأقليات في العالم العربي وما تعرفه من اهتمام لأنها حسب موري فيتش إحدى ضحايا هذا العنف الذي يمنع كل تغيير سلمي في العالم العربي ويمنع بالتالي هذه الأقليات من المشاركة في الثروة والسلطة وهم بهذا القول يحاولون إقناع الأقليات بأنهم يعانون الحرمان والتسلط والعنف والقهر وهم بذلك يدفعونهم الى التمرّد على السلطة والمطالبة بالاستقلال وهذا يؤدي حتما الى تهديد السلطة المركزية وتفكيك وتفتيت كل مشروع يسعى الى بناء أمة كفكرة القومية العربية التي يمكن ان تمثل في صورة نجاحها مصلا مضادا للسرطان الإسرائيلي الأمريكي في المنطقة وعلى هذا الأساس سعت أمريكا الى إفشال حركات الإصلاح منذ محمد علي باشا. فهذا هو الشرق كما يبدو في عيون الغرب دوما وفي عيون أمريكا وإسرائيل على وجه الخصوص السيطرة عليه هو الذي يضمن للحضارة الأمريكية استمرارها الى ابعد حد ممكن في التاريخ. لماذا تبدأ أمريكا بإفهام العالم بأنها هي القوة العظمى في العالم انطلاقا من المنطقة العربية؟ لماذا أينما وجدت مئذنة وبئر بترول توجد الهيمنة الأمريكية؟ من الوهم ومن الخطأ القاتل أن نتصور أن أمريكا تخطط لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط فهذا تقدير سيء في رأيي ذلك أن النظام الأمريكي يتمعش من الفساد العربي لأن أي تحول ديمقراطي في المنطقة يؤدي الى مراقبة إهدار الأموال لصالح أمريكا إذن فكل ديمقراطية في المنطقة تتعارض مع مصالح أمريكا السعودية أهدرت 90 مليار دولار من مال الشعب من اجل تدمير العراق و22 مليار دولار لضرب أفغانستان. ان الولاياتالمتحدةالأمريكية تعمل خلف خطوط السيادة لكل دولة عربية فتسوق جملة من المفاهيم القاتلة مثل الديمقراطية، حقوق الإنسان، مسألة الأقليات المضطهدة فهي بذلك تدسّ السم في الدسم. ماذا علينا أن نفعل ونحن على علم بأننا لكي نحصل على السلام يجب أن نكون قادرين على الحرب فسلام الضعفاء مجرد استراحة للعدو يلملم فيه قواه من جديد. قولنا لا يعلوا فوق قول صلاح الدين الأيوبي الذي قال:» قدر الشام ان يكون بوابة لنطرد منها الغزاة». انطلاقا مما تعرفنا عليه يمكن القول أن البلاد العربية لا تختلف كثيرا عن البلدان الأخرى فهي تمثل فسيفساء من الجماعات العرقية والقومية واللغوية والدينية وهذا الخليط من الأعراق كان سببا في ظهور توترات سياسية ومجتمعية وعسكرية ذلك أن هذه المسألة من المسائل الأكثر حساسية وخطورة فالتعامل معها يتطلب دقة وروية وضبطا منهجيا في عالم تسوده العولمة الاقتصادية الرأسمالية (المتوحشة) وديكتاتورية السوق التي تنتهب حقوق أربعة أخماس البشرية وتقذف بها الى هوامش الحياة متخفية وراء مسميات كثيرة من بينها الاستغلال الجيوسياسي وهذا يضعنا أمام خطرين: - خطر التفريط في حقوق الأقليات أو تجاهلها أو التوجس منها بحجة مقاومة سلبيات العولمة وهو ما يقود حتما الى تذكية الصراعات الطائفية. - خطر تبني الليبرالية الجديدة في صورتها التي يبشر بها المحافظون الجدد أمثال موري فيتش، بايبس، باط الداعية الى الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الأقليات بوجه خاص ذلك ان العولمة التي تقود القاطرة الحضارية العالمية تنطوي على آليتين متعاكستين - آلية دمج الاقتصاديات المحلية والوطنية وتوحيدها باقتصاد عالمي تسيطر عليه الشركات متعددة الجنسيات والاقتصاديات (المفترسة) وفي مقدمتها الاقتصاد الأمريكي مستفيدة من الثورة الرقمية في الإعلام والإعلان والمعلومات وكلها خاضعة للاحتكارات الكبرى. - آلية تفكيك وتفتيت تستهدف البنى القومية أو الوطنية السياسية والاجتماعية والثقافية ولاسيما الدول الواقعة في أطراف النظام العربي من خلال إحياء الهويات ما قبل الوطنية وما قبل المجتمعية وإنعاشها وجعل روابطها وعلاقاتها بديلا من علاقة المواطنة التي هي قوام الدولة الحديثة أي الدولة القومية أو الدولة الأمة.