لِنَتَذَكَّرْ خُطبة الوداع «البنعليّة» حين قال «فهمتكم» طمَعًا في امتصاص الغضبِ العامّ وترقيع النظام.. فخلَعَهُ الشعب مُواجهًا محاولةَ ال«بريكولاج» بعبارة «ديقاج»! بالمُقارنة.. يُمكن الاعتراف لخُطبة الوداع «الجباليّة» بأنّها نجحت نسبيًّا في «مهمّتها»: امتصاص صدمةِ اغتيال الشهيد بلعيد ومَنْح الحكومة فرصة استنساخ نفسِها!
هكذا حَدَثَ ما كان مُتوقَّعًا: تَمَسَّكَ «الغانِمُون» بالغنيمة! وانتصرت المصالح الحزبيّة والشخصيّة على المصلحة الوطنيّة! وأُعِيدَ تَوْزِيرُ رُموز الفشل على طريقة «مَشْكِي وعاوِدْ» وكأنّهم يستحقّون الترقية لا الإقالة! وبدت «الوجوه الجديدة» مع احترام الاستثناءات نُسخًا طِبْقَ الأصل عن الوجوه السابقة أو شبيهةً بشخصيّة «كانديد» الفولتيريّة!
أمّا «تحييد الوزارات السياديّة» الذي سُوِّقَ له على أساس أنّه «تنازُل» فقد بدَا مُجرّد كسْبٍ للوقت. لأنّ الوزراءَ الجُدد مع افتراض حيادهم لن يتمكّنوا من إحداث فارِق إلاّ بعد الانتخابات أي بعد أن تكون «التعيينات» قد قامت بدورها!!
في ضوء ما سبَق يمكن فهمُ التعميم الطاغي على البيان الحكوميّ، كما يمكن فهمُ سرِّ خُلوِّه من أيّ التزام حقيقيّ بتواريخ مضبوطة وبرنامج مُحدّد.. فالبرنامج الوحيد هو البقاء في الحكم حتى النجاح في الانتخابات القادمة!!
تمخّضت الترويكا 1 عن التُريْوِكا 2 إذَنْ.. واستقبلها الشعبُ التونسيّ بقربان عليها أن تتذكّره جيّدًا: جسد الشابّ الذي احترق يُتْمًا من الثورة! وكأنّه يقول: بَعْدَ «أقوَى حكومة عرفها التاريخ» ها هي أخطر حكومة عرفتها تونس!
حكومة تعيد إنتاج ذهنيّة الهوس بالحكم بوصفه غنيمةً لابدّ من المحافظة عليها بالوسائل نفسِها: اختراق الدولة، وتوظيف الدين، وتقسيم الشعب، والمُحاصصة، والانفراد بالأمر، وإنكار الفشل، والإصرار على الخطإ، والمراهنة على القُوّة!
يُحاولُ وزراء المؤتمر ووزراء التكتّل تحديدًا الدفاعَ عن هذه الحكومة بوصفها دليلاً على «جدوى» وجودهم في الائتلاف! لكنّ جانبًا من الرأي العامّ بات يراهم رهائنَ عرفوا أنْ لا مستقبل لهم بعيدًا عن مُختَطِفهم، وكلُّ ما عدا ذلك حركات مسرحيّة للظهور في مظهر المتمنّعات وهنّ الراغبات!
أمّا حركة النهضة فقد يبدو لبعض Hستراتيجيّيها أنّ حكومتها هذه انتصار على «الأيدي المرتعشة» بينما هي هزيمة أخلاقيّة وسياسيّة لأنّ الأيدي المرتعشة في السياق الحاليّ هي الأيدي التي تخافُ على الوطن.. أمّا الأيدي الأُخرى فهي التي تدفع البلاد إلى «سنوات الرعب»، تلك التي عاشتها الثورة الفرنسيّة بين سنة 1792 وسنة 1794 ومهّدت الطريق لنابليون!
هؤلاء هدفُهم الوحيد البقاء في الحكم مهما كان الثمن. ولا وسيلة لهم لتحقيق هذا الهدف غير إبطال الانتخابات أو تأمين آليّات تزييفها أو تأزيم الأمور حدّ العنف معتبرين الفوضى «فرصتهم الخلاّقة» لمقايضة الحريّة بالأمن!
إنّه خيار يُصرّ على عدم الاستفادة من دروس المرحلة السابقة وهو يُهمل كلّ الإهمال الظروف الموضوعيّة التي شهدت ذروتها يوم اغتيال الشهيد شكري بلعيد. ظروفٌ دعت الجميع إلى التوافُق على مدنيّة الدولة والإقلاع عن الذهنيّة الحزبيّة التي يُكتَبُ بها الدستور حتى الآن ومن ثمّ تفكيك الألغام المزروعة في كلّ النصوص والمؤسّسات والهيئات وتحييد وزارات السيادة بما فيها وزارة الشؤون الدينيّة ومساجدها مع وضع حدّ لثقافة العنف وميليشياته! كلّ ذلك لإعادة بناء الثقة وإتاحة المجال لشرعيّة انتخابيّة مُقبلة تنتقل بنا حقًّا من ثورة ممكنة إلى ثورة متحقّقة لا مغدورة! فهل تبدو الحكومة الجديدة في مستوى هذا الاستحقاق؟
ليس من تونسيّ إلاّ وهو يَنْشُدُ ذلك. لكنّ ما هو منشودٌ مختلف عمّا هو موجود. المنشود حكومةٌ تعمل لصالح الشعب لا لصالح حزب.. بينما الموجود حتى الآن: حكومةٌ لا برنامج لها غير ال«بريكولاج» بما يعنيه من ترقيع! ولا منهج لها غير ال«روسيكلاج» بما يعنيه من إنتاج للقديم! ولا هدف لها غير ال«ديفونساج» أي الإطاحة بكلّ ما يحول دونها ودون الحكم وحدَها إلى الأبد! المنشود حكومة وِفاق حقيقيّ.. بينما الموجود حُكومة ترفع الوفاق كشعار وتعمل بنقيضه.. وليس من أُفُقٍ أمام حكومة كهذه غير ال«ديراباج»، أي الذهاب بالبلاد إلى الانفجار!!
وأعترف بأنّي سأكون أسعد المخلوقات لو أنّ الوقائع كذّبت كلّ هذه التوقّعات!