تأتيهم الفرصة على طبق المرّة تلو الأُخرى فيهدرونها! تلك هي للأسف مأساتنا مع أغلب حُكّامنا الجُدد منذ انتخابات 23 أكتوبر مع احترام الاستثناءات القليلة النادرة. إمّا أن يفجعونا بفعلٍ ناقص (Acte manqué) وإمّا أن يهبطوا علينا بفعل زائد (L'acte de trop)، وكأنّ الميدان الوحيد الذي يخرجون فيه من الهواية إلى الاحتراف هو ميدان إخلاف المواعيد مع التاريخ!
ولولا أنّ بعض الظنّ إثم لقلتُ إنّ بعض قادَتنا يبدأ بتحديد هدفه الشخصيّ ثمّ يضع له التشخيص الوطنيّ المناسب! إذا كان الهدف التمسُّك بالكرسيّ فلابدّ من تشخيص يُبرّر التمسُّك بالكرسيّ حتى إذا نتج عن ذلك الطوفان! تأزّمت المرحلة الانتقاليّة لسبب واضح قبل اغتيال الشهيد شكري بلعيد وازداد هذا السبب وضوحًا بعد اغتياله. وهو سبب أشار إليه رئيس الجمهوريّة المؤقّت حين قال في خطابه إلى مؤتمر الحركة «إنّ إخواننا في النهضة يسعون للسيطرة على مفاصل الدولة الإداريّة والسياسيّة..»!!
منذ البداية برّر المؤتمر والتكتّل تحالفهما مع النهضة بالحرص على مدنيّة الدولة ومنع التغوّل والانفراد بالحكم! ومنذ البداية اتّضح اختلال التوازن لفائدة حزب يسعى إلى الاستحواذ على الدولة! ومنذ البداية أصرّ الحليفان على التشخيص الخطإ بما بدا تمسّكًا بالغنيمة مهما صدر من تكذيب!
كان حلّ الأزمة واضحًا قبل اغتيال الشهيد شكري بلعيد وازداد وضوحًا بعد اغتياله: كتابة دستور توافُقيّ والتخلّي عن تغيير المجتمع بالقوّة والكفّ عن نهج الاستحواذ على الإدارة ووضع حدّ للعنف السياسيّ والإعداد للانتخابات وتحييد الوزارات السياديّة لإعادة الثقة في القضاء والأمن.
اغتيال الشهيد شكري بلعيد لم يغيّر تشخيص الأزمة وتحديد الحلّ بل زادهما وضوحًا. وكان خطًّا فاصلا لم يعد مسموحًا بعده لأيّ سياسيّ بالتصرّف وكأنّ الاغتيال لم يحدث.. إلاّ إذا كان يرى مستقبله السياسيّ وراءه!! لذلك كان في الحسبان أن يُوجّه زعيمُ النهضة رسائل إلى شعبه وأنصاره مفادُها ضرورةُ تمثُّلِ الفاجعة والحرص على وضع حدّ لهذا الفودفيل التأسيسيّ والتحويريّ والانتقاليّ..
كان في الحسبان أن يضع رئيس الجمهوريّة يده على جوهر اللحظة وأن يصطفّ مع شعبه لا مع حليفٍ ضدّ حليف في سعيٍ إلى التموقع لا نتيجة له إلاّ الخروج من الصورة، غدًا أو بعد غدٍ، حين لا يبقى أمام الاحزاب القمريّة خيار سوى الاندماج في الحزب الأمّ بعد أن يحمل هذا الأخير اسمًا آخر..
كان في الحسبان أن يغتنم رئيس المجلس التأسيسيّ الفرصة ليتحرّر حقًّا لا ليصطفّ مع خصم ضدّ خصوم.. مستمرًّا بذلك في ربط مصيره ومصير حزبه بزواج غير طبيعيّ مع مشروع سياسيّ واجتماعيّ لا علاقة له بالحريّة والديمقراطيّة.
لم أنسَ رئيس الحكومة طبعًا.. فقد صنع الحدث بعرضه تشكيل حكومة تكنوقراط.. ودافع عن مُبادرته باعتبارها موقفًا وطنيًّا شجاعًا.. وقد لا يخلو ذلك من صحّة إذا أكّدته الأحداث.. لكنّه لا يخلو أيضًا من صلةٍ بمعركته الشخصيّة داخل حزبه.. وأيًّا كان الأمر فلابدّ من الإقرار له بأنّه استطاع أن يجنّد الكثير من معارضيه لفائدة معركته وطنيّةً كانت أم شخصيّة!
وعلى الرغم من ذلك فإنّ في الطريقة التي عرض بها مُبادرته ما يفوّت عليها فُرَص النجاح! ولو أنّه أراد استفزاز خصومه هنا وهناك لما اختار أفضل من تلك الكلمات التي تؤكّد على الانفراد بالقرار والاستغناء عن كلّ مشورة! ولعلّ آخر إبداعاته في فنّ إهدار الفُرَص مجلس الحكماء الذي تمّ الإعلان عنه مساء الثلاثاء 12 فيفري 2013!
16 شخصيّة لا ينكر أحد أنّ من بينها شخصيّات مُستقلّة ونضاليّة وحكيمة حقًّا، والبقيّة بعضهم بريء من الحكمة براءة الذئب من دم يوسف! وبعضهم استهلك رصيده من الحكمة في العهود السابقة ولم يعد له شاحن أصلا! لكن أين الحساسيّات والأحزاب الأخرى؟ أين ممثّلو اليسار؟ أين المرأة؟ مرّةً أخرى تُعاوِدُنا رائحةُ «البارونات»! رائحةُ «المخزن»! وكأنّ الجسم السياسيّ عظامٌ تتعارك ثمّ «تصفر لبعضها» بمنأى عن المياه الهادرة في مجتمع يتغيّر بأسرع ممّا تتوهّم نُخبته. تلك هي للأسف مأساتنا مع أغلب حُكّامنا الجُدد! يضربُ لهم التاريخ موعدًا في مكانٍ وزمانٍ مُعيَّنين فيذهبون إليه في زمانٍ ومكان آخرَيْن! المشكلة أنّ التاريخ قطار يصفر مرّة واحدة! فليتهم يسمعون!