قبيل اغتياله بوقت قصير كان الشهيد العلامة البوطي رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته يؤكد في حوار معه، بثّته الفضائية السورية بعد استشهاده، على حريّة المعتقد، وعلى أن العبودية لله مشترك بين جميع الأديان والطوائف والمذاهب وأنها ثابت من ثوابت الأمّة لا يجوز المساس به. وفيما يتعلق بالأزمة السورية أعاد الشهيد التأكيد على ما كان يردده في خطبه بالجامع الأموي من أن سوريا بعون الله ستخرج منتصرة من هذه الأزمة، وأن بلاد الشام التي يذود الجيش العربي السوري عن حماها بكل بطولة هي في حماية الله. ذلك أنها الأرض المباركة أرض الإسلام الحق ومنبع العلم الإسلامي الصافي، وعنها قال الرسول محمد عليه الصلاة والسلام: «طُوبَى لِلشَّامِ لأَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْه».
لم يكن البوطي يملك سوى سلاح الكلمة في حرب أباح فيها العدوّ المتعدّد لنفسه استخدام كل الوسائل غير المشروعة وغير الأخلاقية وعلى رأسها الإرهاب والسلاح الكيميائي.
كان مثالا للداعية الإسلامي الذي يدعو إلى سبيل ربّه بالكلمة والموعظة الحسنة، ولم يتوقف عن رسالته النبيلة تلك حتى آخر لحظة في حياته المديدة، وكان مثالا للعمل الصالح مخلصاً للوطن جريئاً في نصح الحاكم ودعوته إلى العدل والإنصاف.
ولأن الشهيد كان قامة دينيّة وطنية عالية تمتلك كلمة مسموعة وتأثيراً قوياً في الناس، ولأن أعداءه من الأدعياء والمنافقين وعلماء الفتنة كانوا أعجز من الوقوف أمام قوّة حجته وصدق برهانه، ولأنّه كان يكشف حقيقة أفعالهم الإجرامية الغريبة عن الإسلام قرآناً وسنّة، فقد أقدموا على اغتياله علّهم يقضون على واحدٍ من رموز الصمود السوري في وجه مخططهم الامبريالي الصهيوني، هذا الصمود الذي أسقط رهاناتهم، وأفشل مساعيهم القذرة.
لقد تفطّن الشهيد رحمه الله باكراً ومنذ بداية الأزمة السورية إلى أن مخطط إسقاط الدولة السورية بسبب مواقفها الوطنية والقوميّة الصامدة يقترن بمحاولة خبيثة وممنهجة لتشويه الدين الإسلامي الحنيف باسم الإسلام نفسه، ولكن أيّ إسلام؟.. إنّه إسلام التكفير والإرهاب والقتل والذبح!!.. وبالإضافة إلى الأسباب الجيوسياسيّة التي دفعت الامبريالية والصهيونية وأذنابهما من عرب النفط والعثمانيين الجدد، ركّز الشهيد الكبير على العامل الديني. ذلك أن الشام هي مركز الإسلام الحضاري المشع، الإسلام الحقيقي، إسلام القرآن والسنّة،الإسلام الوطني، الإسلام المتنوّر الذي أعطى العالم كلّه صورة مشرقة وهّاجة أقنعت مئات الملايين وأدخلتهم في رحابه النورانية الواسعة.
وكان لا بدّ لمشروع استهداف هذا الإسلام الذي استعصى طويلاً على المخططات الغربية من استهداف البلد الذي ازدهر فيه عبر أدوات ووسائل شيطانية جديدة، فقد أدرك العدو الامبريالي مركزية الإسلام في التكوين الاجتماعي والثقافي العربي، فقرّر أن تكون أداته للقضاء عليه أداة إسلاموية داخلية كي تنجح في غزو العقول وتنفيذ المخطط بالسرعة والنجاعة الممكنتين وهكذا لبس الإرهاب لبوس الإسلام والثورة على الظلم زوراً وبهتاناً. ليعبث في أرض الشام فساداً ويرتكب بحقها وحق مواطنيها وفي ظل دعم دولي وإقليمي وعربي رجعي غير مسبوق أبشع الجرائم التي قلّ نظيرها والتي كان آخرها جريمة الاغتيال النكراء...
على أنّ ما فعله المجرمون أعداء كتاب الله وسنة نبيّه (صلى الله عليه وسلم)، وإن نجح في تغييب جسد الشيخ الشهيد، فإنّه قد حوّله، على عكس ما كان يريدون ويأملون، إلى رمز خالد في العقول والضَمائر، وجعل من فكره الإسلامي النيّر إرثاً حيّاً يستنهض الهمم ويقوّي العزائم ويزيد الصمود في مواجهة هذه الحرب الكونية اللاأخلاقية الشرسة التي تستهدف دولة العروبة والمقاومة والإسلام الحق الذي يرفض الركوع لأمريكا وإسرائيل..