قال الاستاذ راشد الغنوشي في احدى محاضراته حول العلمانية والاسلام: تبدوالعلمانيّة وكأنّها فلسفة, وكأنّها ثمرة تأمّلات فلسفية جاءت لمناقضة ومحاربة التصورات المثالية والدّينية. الأمر ليس كذلك, العلمانية ظهرت وتبلورت في الغرب كحلول إجرائيّة وليست فلسفة أونظرية في الوجود بقدر ما هي ترتيبات إجرائية لحل إشكالات طرحت في الوسط الأوروبي. أهمّ هذه الإشكاليات ظهرت بفعل الإنشقاق البروتستنتي في الغرب, والذي مزّق الاجتماع الذي كان يدور في إطار الكنيسة الكاثوليكية بما فرض الحروب الدّينية في القرن السادس والسابع عشر. هكذا بدأت العِلمانيّة أوالعَلمانية, حتّى اللّفظ العربيّ ليس مُتَّفَق عليه, فاللّفظ الأوّل يبدووكأنّه من العِلم والأمر ليس كذلك, أمّا الثّاني فهومن العَالم ويشير إلى كلّ ما هو دُنيوي وهو الاستخدام الأقرب. قلت إنّ العلمانيّة جاءت بإعتبارها ترتيبات إجرائيّة لاستعادة الإجماع الذي مزّقته الصراعات الدينيّة. من هنا يأتي السّؤال: هل نحن في حاجة للعلمانيّة بإعتبارها ترتيبات إجرائيّة؟ ربّما أهمّ فكرة في خلاصة هذه الإجراءات هي فكرة حيّادية الدّولة, أي الدولة محايدة إزاء الديانات ولا تتدخّل في ضمائر الناس. الدولة مجالها «العام» بينما الدين فمجاله «الخاص». هذا ما إنتهت له هذه الإجراءات رغم أنّها إختلفت في علاقتها بالدين. في الولايات المتّحدة تدخّل الدين في المجال العام تدخلا واضحا, فرغم أنّ هناك تمايزا إلا أنّه يبقى هناك تأثير كبير. فخطب الزعماء مشحونة بالتصوّرات الدينيّة, وخلال الحملات الإنتخابية الدين مطروح وكذلك الصلاة في المدارس موضوع مطروح , موضوع الإجهاض وعلاقته بالدين, وذلك في الحقيقة لأنّ أمريكا أنشاها المهاجرون الإنجيليّون الهاربون بدينهم من الإضطهاد الكاثوليكي في أوروبا ولذلك يُنظر إليها على أنّها أرض الميعاد, الأرض التي تتحقق فيها الأحلام التي وردت في التوراة والإنجيل.
بينما العلمانية, حتى أن المفكر الأمريكي الفرنسي توكوفيل الذي قال أنّ أقوى حزب في أمريكا هو الكنيسة. بطبيعة النفوذ الكبير الذي تتمتع به الكنيسة, والحال ليس كذلك في أوروبا. فبينما الذين بإمكانهم أن يؤمّوا الصلاة في أمريكا يفوق عددهم 50%, في أوروبا قد لا يتجاوز عددهم 5% ففيه تراجع. وفي أوروبا هناك إختلاف في علاقة الدولة بالدين بين المنطور والإرث الفرنسي والإرث الأنجلوسكسوني, حيث يصل الأمر في المملكة البريطانية أن تجمع الملكة بين السلطتين الزمنية والدينية. الفصل الكامل والكبير هوالذي يعرفه الإرث الفرنسي بسبب المصادمات التي حصلت في تاريخ فرنسا بين الدولة التي أنشأها الثّائرون والإرث الكنسي الكاثوليكي. حتّى في أوروبا إذن, نحن لسنا إزاء تجربة واحدة في العلمانية وربّما لقدرنا نحن بما أنّ نخبتنا أكثر تأثّرا بعلمانيّة خصوصيّة في الحقيقة حتّى في المنظور الغربي هي خصوصية فرنسية, حيث يُقصَى الدين من المجال العام وتعتبر الدولة نفسها حارسة الهويّة. ولذلك الديني بكل رموزه لا ينبغي أن يتدخّل في المجال العام, وهذا الذي جعل فرنسا البلد الوحيد مثلاً الذي لم يقبل غطاء الرأس بالنسبة للمرأة المسلمة, بينما لا نر هناك أزمة في أيّ بلد أوروبي آخر حول موضوع الفولار (الحجاب).