صورتان اثنتان كانتا حاضرتين في ذهن الأمير حمد بن خليفة وهو يجلس يوم 27 جوان 1995 على كرسي العرش بعد الانقلاب على أبيه الشيخ خليفة الذي كان غائبا للتداوي في مدينة لوزان السويسرية. الصورة الأولى تفيض غيظا، غيظ حمد الشاب الطالب بالأكاديمية العسكرية الملكية «اسندورست» البريطانية حين كان يُسأل في كل مرة يُطلب منه الاستظهار بجواز سفره: قطر، أين توجد قطر؟.
وأما الصورة الثانية فتذكره بالخوف الذي انتابه في عام 1993 حين دخل جنود سعوديون التراب القطري إثر مواجهات دامية بين البلدين وقطعوا الاتصال مع دبي لعدة أيام.
الضّجر والخوف كانا من الأسباب الأولى التي دفعت بالأمير حمد إلى الاطاحة بأبيه الذي كان يعيب عليه جموده وانغلاقه على نمط العيش البدوي القديم ورفضه كل مشروع لتطوير البلاد. لذلك وما أن تمكن الأمير الشاب من مقاليدالبلاد حتى سارع بوضع خطة طموحة لاستغلال الثروات الطبيعية الهائلة التي يعجّ بها ثرى الجزيرة وخاصة منها الغاز الطبيعي المختبئ في مناجم تتواجد على الحدود مع العملاقة إيران المتخبطة في صعوبات مالية تمنعها من الاستثمار في المعدات والتقنيات اللازمة للاستفادة من هذه الثروة. الأمير يعلم أن الفرصة مواتية لتحقيق حلمه وإعطاء بلاده الصورة التي تفتقدها لكنه يعلم أن ذلك يتوقف على توفر شرطين أولهما إيجاد محمل قادر على إيصال صورة قطر إلى الخارج وثانيهما ضمان حليف قوي يستند عليه لحماية البلاد من مطامع جيران لا يستحسنون كل هذا الطموح وهذه الحركية اللذين يفوقان بكثير حجم هذه الدويلة الصحراوية.
لم يضيّع الأمير وقتا كبيرا في البحث ولم يمرّ عام حتى وجد المحمل المناسب لإشاعة صورة قطر وإشعاعها. إنها قناة الجزيرة التي ستبث بلا انقطاع منذ نوفمبر سنة 1996 والتي ستستهدف كل مشاهدي البلاد العربية كما لو كانوا جمهورا متناسقا.
أما الحليف القوي فلن يكون غير الولاياتالمتحدةالأمريكية التي سيمنحها الأمير قاعدة عسكرية بعد مغادرة جيوشها الأراضي السعودية في نهاية حرب الخليج. «سنتوم» هو اسم هذه القاعدة المتمركزة في منطقة العديد في قلب الصحراء القطرية والتي تضم حوالي عشرة آلاف جندي أمريكي وتتسع لاستقبال مائة طائرة عسكرية. قاعدة «سنتوم» كانت نقطة انطلاق العمليات الجوية في حرب الخليج وهي تلعب اليوم نفس الدور في الحرب ضد طالبان في أفغانستان.
الأمير والزوجة والوزير
لم يكن أحد يتصور أن تبلغ قطر الدويلة الصحراوية التي تقطنها بعض القبائل البدوية ما بلغته اليوم من نهضة اقتصادية وعمرانية مكنتها من منافسة وأحيانا مجاوزة مستوى جيرانها من دول البترول مثل الكويت والامارات العربية والسعودية. وكل ذلك في مدة قصيرة لم تتجاوز الثمانية عشرة (18) سنة. إنها معجزة ما كانت لتحقق لولا ذكاء وبعد نظر الأمير حمد الذي نجح بدعم من زوجته الثانية الشيخة موزة ومن ابن عمه الوزير الأول ووزير الخارجية حمد بن جاسم أن يخرج قطر من المجهول إلى الأضواء العالمية ويعطيها حجم دولة كبرى تلعب أهم وأخطر الأدوار على الساحة العالمية.
الأمير والزوجة والوزير يكونان ثلاثيا ينعت بالساحر لما أصبح لهؤلاء الثلاثة من قدرة على التأثير على أحداث العالم وتوجيهها بما يتوفر لهم من طفرة مالية نحو ما تمليه مصالح الامارة التي هي مصالحهم لأنه لا فصل في قطر بين الدولة والعائلة الحاكمة.
العائلة تدور حول الأمير كما تدور الكواكب حول الشمس. إنه صاحب الرأي الأول والأخير وإليه يعود الفضل في تصدر قطر أغنى دول العالم من حيث الدخل الفردي لا تضاهيها في العالم إلا دوقة لوكسمبورغ الكبرى.
انتهازي وبرغماتي
يتفق العارفون بشخصية الأمير حمد والمهتمون بسيرته الشخصية على وصفه هكذا. ولقد أثبت الأمير هذه النفسية الانتهازية التي يعزوها البعض إلى أصوله البدوية في أكثر من مناسبة لعل أهمها لما استقبل القاعدة الأمريكية سنة 2003 بعد خروجها بطلب من الحكام السعوديين من الأراضي المقدسة لاقتناعه أن هذا الامتياز الذي يقدمه للقوات الأمريكية سوف يمكنه من تقدير إدارة العم صام له ويضمن له بالتالي حصانة ونفوذا للعب الأدوار الأولى في المنطقة. من سيجرؤ على مهاجمة قطر وهو يعلم تمركز القوات الأمريكية بها؟ لا أحد لأن «الأسد» كما كتب أحد المتتبعين للشأن القطري لا يجرؤ على تحدّي الفأر إذا ما رأى الفيل وراءه». وهي نفس الطبيعة الانتهازية التي دفعت بالأمير إلى مناصرة الحركات الاسلامية وليس كما يذهب في ظن البعض عن اختيار فكري أو التزام ايديولوجي. لقد أبصر الأمير غياب الزعامة العربية بعد سقوط النظام البعثي في العراق وتأزمه في سوريا وتراجع الدور المصري المتخبط في مصاعبه الاجتماعية وتردّد النظام السعودي بسبب شيخوخة حكّامه.. أبصر الأمير حمد هذا الفراغ فأطلق العنان لرغبته في تقمّص دور اللاعب الأساسي على الساحة العربية معتمدا في هذه الريادة على قوة نفوذه المالي وعلى الشبكة الهائلة من الأصدقاء الحركيين في كل البلدان الاسلامية والذين استفادوا كثيرا من سخاء الأمير ودعمه المادي والاعلامي لهم. وبرزت قيمة هذه الشبكة من الصداقات إبان قيام «الربيع العربي» الذي سهّل لقطر لعب دور المحرّك للثورات في تونس وخصوصا في مصر وليبيا واليمن وسوريا حيث أكدت القيادة القطرية انحيازها الواضح لقوى الحركات الإسلامية والوقوف إلى جانبها حتى تصل إلى سدة الحكم اعتقادا منها دائما أن الحركات الاسلامية هي الوحيدة القادرة اليوم على هيكلة المجتمعات بعد فشل الأحزاب الوطنية ذات المنحى الاشتراكي وتورطها في الفساد.
الشيخة موزة الزوجة الرّمز
وراء الأمير حمد زوجته الثانية الشيخة موزة بنت صابر المسند. لا أحد من المتطلعين على خفايا الديوان الأميري يجهل مدى التأثير الكبير والحاسم للشيخة على الأمير حتى لكأنها صارت زوجته الوحيدة تصطحبه في زياراته في الخارج وتظهر إلى جانبه في المناسبات الرسمية تشاركه الرأي والقرار. ورغم أن الأمير تزوج ثلاث مرات مرة قبل زواجه بالشيخة موزة، ومرة بعده فإنه لا يخفي أو لم يعد يخف أن موزة هي المفضلة أو «الزوجة» بألف ولام التعريف كما تؤكد على ذلك الصحافة القطرية «The Wife».
كل ما كتب عن الشيخة موزة يذهب في نفس الاتجاه لابراز ما تتمتع به هذه المرأة من ذكاء وكرزمائية جعلاها تحتل سريعا موقعا متقدما في البلاد عموما وفي تقدير الأمير خصوصا فتتحول علاقتهما من زواج «مرتّب» إلى زواج حب يثير الإعجاب في الخارج بقدر ما يثير التحفظ وأحيانا الانزعاج في الداخل. المجتمع القطري لا يقبل كثيرا ظهور هذه المرأة المثقفة والأنيقة إلى جانب الأمير. عادات الإمارة المطبوعة بالتقاليد الوهابية ترى مكان المرأة في البيت والأمير حمد لا يمكنه تجاهل ذلك حتى وإن قاسم زوجته ذات التوجه الليبرالي والحداثي لذلك فهو يحاول التوفيق بين الوفاء للتقاليد ومجاراة سعي زوجته المفضلة إلى دفع قطر إلى الحداثة والتفتح.
والحقيقة ان الشيخة موزة حققت الكثير في مسعاها العصراني بل هناك من يقول إنها صانعة نهضة قطر بما تحمله من أفكار تقدمية وخصوصا من إيمان راسخ بقيمة التعليم وقدرته على تغيير المجتمع. ولم يلبث الأمير حمد أن تبنى مشروع زوجته الفكري فوفّر له كل الامكانيات اللازمة لبعث «مؤسسة قطر للتربية والعلوم» التي صارت تضاهي اليوم أعرق المدارس والكليات العالمية.
لكن النجاح الأبرز للشيخة موزة البالغة اليوم أربعا وخمسين سنة والتي قضت طفولتها الأولى في الكويت حيث وقع نفي عائلتها من قطر في بداية الستينات، ثم في مصر حيث عايشت تطور التجربة القومية الناصرية وتأثرت بها، قلنا أبرز نجاحاتها هو دون شك «فرض» ابنها الثاني تميم وليا للعهد وتهيئته لحمل مشعل مواصلة عملية تحديث قطر وإعدادها ماديا وفكريا للانصهار ضمن التحولات الكبرى للعالم.
لقد صارت الشيخة موزة رمز قطر الجديد لكن نضالها من أجل تعميم التعليم ورفع مستوى المرأة لا يتنافى عندها وحب البذخ والترف بل وجنون العظمة. الأمير لا يرفض طلبا لزوجته المفضلة بل يسهر على تحقيق كل نزواتها مثل يختها الجديد الذي يبلغ طوله مائة وتسعة وثلاثين مترا (139م) والذي أشرف على تزويقه أكبر الفنانين العالميين أو طائرتها الجديدة من نوع البوينغ التي تضاف إلى طائرتها الأخرى من نوع الآرباص أ 330 مزوقة هي الأخرى من طرف أشهر الأسماء.
الوزير HBJ
إذا كانت الشيخة موزة هي الصورة الرمز الظاهرة لقطر فإن لهذه الامارة صورة أخرى خفية يمثلها الوزير الأول ووزير الخارجية حمد بن جاسم أو HBJ كما يعرف في الأوساط الديبلوماسية. حمد بن جاسم هو ابن عم الأمير وولي نعمته. فهو الذي هندس الانقلاب سنة 1995 الذي قاده الأمير على أبيه وهو الذي فاوض شيوخ القبائل على قبول الواقع الجديد بعد الانقلاب وهو الذي أمّن عدم تدخل القوات الأجنبية من الأشقاء والأصدقاء.
خدوم لا ينام إلا بضع سويعات في اليوم ذكي سريع البداهة وهّابي محافظ لا يظهر أبدا مع زوجاته, هذه بعض صفات حمد بن جاسم كما نقلها كتّاب سيرته الذين يضيفون أنه أصبح المهندس الأول والوحيد لديبلوماسية قطر الجديدة والتي تطورت من اهتمام إعلامي عبر قناة الجزيرة التي هو صاحب فكرة بعثها إلى «حضور نشيط» في المنطقة العربية وفي عديد مناطق أخرى من العالم. ولقد تطور الحضور النشيط مع حلول الربيع العربي إلى «تدخل فاعل» تجلى في ليبيا ويتجلى في سوريا حيث تحول حمد بن جاسم إلى قائد حربي غير معلن. ومع تصاعد أحداث الربيع العربي وتطورها في الاتجاه الذي أراده تنامت ثقة الوزير حمد بنفسه وبدوره حتى بلغت أحيانا درجة الصلف والوقاحة.
يذكر أن أحد المتابعين للشأن القطري أنه لم يتردد في التوجه بهذه الكلمات إلى وزير خارجية الجزائر مراد مدلسي في المغرب الأقصى الذي كان يبدي رفضا لقبول الموقف العربي المعادي لسوريا:
«إخرص، دورك سيأتي». وأمام ذهول الحاضرين أضاف حمد بن جاسم: «على كل حال ليس لكم خيار آخر غير اتّباعي لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية ورائي». لقد أصبح حمد بن جاسم وزير خارجية قطر منذ سنة 1992 والوزير الأول منذ 2007 مع المحافظة على وزارة الخارجية الرقم الأساسي في كل قرار سياسي عربي. مبدأه: كل شيء قابل للبيع والشراء. لأن الوزير حمد بن جاسم هو قبل كل شيء ومثل كل حكام قطر رجل أعمال ناجح وصاحب ثروة طائلة تعدّ بمليارات الدولارات لكن قدرته المالية لها حدود حينما يتعلق الأمر مثلا بشراء طائرته الخاصة التي لا يجب أن تتميز عن طائرة الأمير. من يمنعه من ذلك؟ الشيخة موزة التي يعلم الجميع سوء العلاقة التي تربطها بالوزير الأول.
الأمير، زوجته ووزيره ثلاثي يحلم بالعظمة ويصرف المليارات من أجل تحويل دويلة لا تزيد مساحتها كثيرا عن مساحة جزيرة جربة إلى قوة عظمى. أين يقف هذا الثلاثي؟ الجواب صار مألوفا في أفواه حكام قطر: «لا تحدنا غير السماء» The Sky is The Limit
الأمير حمد بن خليفة في سطور
ولد الأمير حمد سنة 1952 وفقد والدته عائشة العطية عند ولادته فعرف اليتم والوحدة وعاش لسنوات طويلة حياة البداوة الصحراوية. تزوج الأمير ثلاث مرات وأنجب 24 طفلا (13 بنتا و11 ابنا) يعاني الأمير من صعوبات صحية مزمنة ويشكو من مرض السكري ويعيش بكلية واحدة يهوى الأمير التجوال على دراجته النارية على الطرقات الفرنسية والتردد على المطاعم الباريسية الفاخرة بصفة غيرصفته الرسمية أسر أخيرا لمقربيه رغبته في مغادرة الحكم في السنوات القليلة القادمة لكنه لم يعلن عن ذلك رسميا
غدا: الدولار، الجزيرة ويوسف القرضاوي أسلحة التأثير الشامل