تشدني اليها كثيرا هذه الكتابات شعرية كانت أم نثرية التي ينأى فيها أصحابها عن تعقيد المعاني وتكلف اللغة والاغماض والزركشة ويضعون في الاعتبار وهم يكتبون أنهم ازاء قارىء يبحث عن نفسه أو عن شيء منها بين سطورهم فإن عثر على ضالته أحبهم وما يكتبون وإن فشل في العثور على مبتغاه رمى جانبا وراء ظهره ما بين يديه غير آسف على غير ما أهدر من وقت وما شيّد من آمال. من آخر ما قرأت مجموعة قصصية جديدة صادرة عن دار الاتحاد للطباعة بمصر، صفحاتها مائة وسبع وعشرون ونصوصها القصصية تسعة. والمجموعة أهدانيها منذ أيام صاحبها الصديق : محمد سيد الوكيل، وسيد الوكيل، هو جامعي مصري تنوعت كتاباته بين القصة والرواية والنقد. ومنذ البداية نشير إلى أن قصص سيد التي بين أيدينا جاءت أو هكذا نجدها على الأقل لتحيي لونا من الكتابة السردية افتقدناه أو كدنا نفتقده بعدما طغت على كتابات العشرية الأخيرة من القرن الماضي وبدايات القرن الجديد نزعة نحو التهويم والطلسمية نفّرت القراء وأسكتت النقاد وكانت من بين الأسباب التي ساعدت على كساد سوق القراءة وهبوط بورصة الكتاب. ونحن نرصد هذا الإحياء الذي نروم الحديث عنه من خلال : 1 الغلاف 2 العنوان الخارجي 3 العناوين الداخلية 1 الغلاف : عدا اللون الذي كتب به عنوان الكتاب وجنسه وهو اللون الأحمر أو هكذا بدا لنا فإن اللونين اللذين تقاسما في غير تساو واجهة الغلاف وخلفيته كانا بلا منازع الأبيض والأسود : شخوص سوداء داكنة تتوزع على مواقع متقاربة في بياض ناصع شاسع توحد بينهما وضعية الوقوف أو ما شابهه وحالة الشعور بالمتاهة ولا يفرق بين هذه الشخوص السوداء غير الوجهة التي يستقبلها كل منها. هل نقول منذ البداية إن حكمنا السابق على هذا العمل القصصي والمتمثل في الوضوح وفي جمال اللغة مع بساطة الألفاظ والتراكيب حكم متماش تماما حتى مع شكل الكتاب وما فيه من ألوان اجتهد صاحبها ومن ورائه المصمم في أن لا تتعدى لوني الأبيض والأسود؟ وهل نحايد الصواب إذا قلنا ان اجتماع هذين اللونين في ظاهر الكتاب وباطنه ليس اجتماعا اعتباطيا أو مجرد مصادفة.... وأن الأبيض والأسود ليسا في نهاية المطاف أو في بدايته غير لوني الدنيا / لوني الناس / لوني كل واحد منا؟ وهل نكون قد بالغنا ولو بمقدار إذا قلنا إن المبدع الحقيقي قد لا يحتاج الى غير الأبيض والأسود لإخراج ما يعتمل في باطنه إلى الناس ولينشىء على ضفاف الحياة التي يحياها حياة أخرى موازية تبيّض حينا ويغلب عليها السوّاد أحيانا؟ 2 العنوان الخارجي : نحن أمام خبر حذف مبتدأه ولا نظم حذقه إلا مقصودا. والعنوان على بساطته الظاهرة محير ومثير للتساؤل ولعل محاولة الاجابة لتكميل الجملة حتى يخرج لنا من صمته مبتدأها الافتراضي هو ما سيزيل الغموض... من هذا الذي يبدو مثل واحد آخر؟ إن الجواب لئن كان ممكنا فإن تخصيص واحد عينه ليكون مثل واحد آخر لا يبدو من مقاصد الكاتب ولا مما يلائم العنوان.... فقط ليظل السؤال يلح : هذا الذي هو مثل واحد آخر، هل هو أنا؟ هل هو أنت؟ هل هو كل منا؟ هل هو : لا أحد؟ 3 العناوين الداخلية لعل ميزة هذه العناوين السهلة لغة وتركيبا أن سهولتنا هذه بدت دافعا لاقبال القارىء عليها وعلى ما تفتح عليه فكأنها تدعوه إليها من حيث يبدو أنها تنهي دوره وتحد من فضوله. انظر معي مثلا هذا العنوان : «أهالوا عليه التراب ص 16» جملة فعلية استئنافية تامة التركيب واضحة المعنى... ولكنها عندما تتخذ عنوانا لنص قصصي تصبح فخا يطبق على من يروم الاقتراب منه اذ سرعان ما تتبادر إلى ذهنه أسئلة محيرّة مثل : من الذين أهالوا التراب؟ من الذي أهيل عليه التراب؟ لماذا أهيل التراب؟ حتى إنه لا يبدو لمثل هذه الأسئلة حد. والواقع أن كل عناوين نصوص سيد الوكيل التي بين أيدينا عناوين لا نستطيع أن نقول عنها سوى أنها محيرة : إنها محيرة بهدوئها وبصمتها لأن الهذا الهدوء وذلك الصمت لا يكفان عن دغدغة القارىء واقتحام خياله بما يضمن دفعه للانتقال الى عالم ما بعد العنوان أو عالم ما بعد العتبة. انظر معي هذه العناوين مثلا : حواس تستيقظ. كل ما عليك أن تموت. مثل واحد آخر. صاحبة الضوء الغافي. المشهد. عرى بللوري. ليست بيضاء تماما. شال لفاطمة. شرفات مغلقة. ألا تبدو محيرة بهدوئها مشبعة إيحاء رغم بساطتها تفيض غموضا رغم وضوحها البادي في اختيار اللفظ وفي نسق التركيب؟ إننا إذن ازاء بساطة ليس فيها شيء من السذاجة وإزاء سهولة تفيض امتناعا وازاء نوع من الكتابة تبدأ أدبيته من لون الغلاف وتصميمه ولا تنتهي بين سطور النصوص. خاتمة إننا في «مثل واحد آخر» مع كاتب لا يلجأ الى الزركشة اللفظية ولكنه ينجح في إدهاش قارئه ببساطة لغته وبساطة مفرادتها... مع كاتب لا يكتب ليخاطبنا بل يستمع إلينا : فلقد أحسسناه مرارا يشركنا تردده ومخاوفه ومشاعر ندمه... وكدنا نشعر أننا نكتب معه نصوصه ونروي معه الأحداث ونبحث معه عن مواطن التشويق... بل إننا وجدناه مسالما متنازلا عن سلطة الكتابة مستعدا لتسليمنا مقاليد قلمه ليصبح «مثل واحد آخر». إننا مع كاتب لا يهمه كثيرا أو قليلا الموضوع الذي يعالجه نصه القصصي بقدر ما يقض مضجعه كيفية صياغة ذلك الموضوع صياغة فنية يتجاور فيها الهم المحلي بالنكبات الكونية وتختلط فيها الفصحى بالعامية المصرية اللذيذة... على أننا نشير إلى أن ثنائيات التجاور لا تنفك منذ مصافحتها الكتاب لأول وهلة تتضح جلية لأذهاننا ففي «مثل واحد آخر» يتجاوز الأبيض والأسود والمحلي والكوني والفصحى والعامية واحساس الضيق بفسحات الأمل وفي كلمة يتجاور في هذا الكتاب القارىء والكاتب حتى ليكادان يتماهيان ويتحدان فلا ندري أيهما سيد الوكيل وأيهما قارئه؟ سيد الوكيل : كتب مصري صدر له : أيام هند : قصص للروح غناها قصص فوق الحياة قليلا رواية مدارات في الأدب والنقد وقيد النشر