معركة ساخنة عاشها وسجل وقائعها نادي أدباء الأقاليم منذ أيام في قصر ثقافة الاسماعيلية بين مجموعة من المبدعين الشبان والشاعر الكبير عبد الرحمان الأبنودي.. الحوار كان ساخنا ودافئا.. وصادقا.. اشترك فيه العديد من شعراء الاسماعيلية ومبدعيها في بقعة مهمة من قناة السويس. اشترك في الحوار جمال حراجي وأحمد مطاوع «القنطرة شرق» وانديرا محمد عبده وحافظ الصادق وسيد أبو العينين وجمال عبد المعتمد ومصطفى العربي وخالد صالح وعلي نظر هويدي وأحمد عبد العظيم. استمع الأبنودي لنماذج ابداعية من مبدعي الاسماعيلية بعد اللقاء الشعري للأبنودي في احتفال الاسماعيلية بعيدها القومي. ودار هذا الحوار.. * الشباب : نحن لا نرفض إبداع الأجيال السابقة لأننا ببساطة تربينا عليها ومع ذلك نقابل بهجوم الكبار على ابداعنا خاصة في القصيدة النثرية.. وهناك اتهامات جاهزة يصوبها الكبار لنا بأننامشتتون ومغرورون ومتشائمون. الأبنودي : أنا لا أخفي سعادتي في الاختلاف مع الأجيال الجديدة وإبداعهم، فإذا اختلف الأجيال لن يحدث تقدم، أنا أحلم بإبداع جديد يحققه الشبان ونستفيد منه نحن الكبار!! * الشباب : لكن هل اختلف المناخ الآن عن المناخ الذي نشأ فيه الكبار؟ الأبنودي : إذا قارنّا بين الظروف التي خلقتنا كشعراء وظروف الشباب الآن نجد الأجيال الجديدة بحق تجاهد في بسالة. فقد كان المناخ أيّامنا يدعو للإبداع، باختصار كانت الدنيا تسير إلى الأمام.. وكان الشعر بالتبعية ينطلق إلى آفاق جديدة.. ففي فترات المدّ ثمة أشياء تبقى وأشياء تزول، لكن الآن حدث ولا حرج. * الشباب : حدث انعزال بين الناس والشعر.. والسبب هو الكبار لذلك نحن ورثنا هذه التركة الثقيلة من الانعزال مع الجمهور منكم. الأبنودي : المبدع لا يخفي مبادئه.. ملامحه، ايديولوجيته. وأنا شخصيا اخترت العامية كلغة إبداع.. في الستينيات رغم انني بدأت كشاعر فصحى. فوران اجتماعي * الشباب : لماذا هذا التحول؟ الأبنودي : كانت هناك حركة فوران اجتماعي. صرنا أصوات شعبنا بإرادتنا. لم يجبرنا أحد. قرّرنا أن نكون حلقة وصل بين الفكر الذي يحتكره المثقفون والجماهير التي تمّ تجهيلها مع سبق الاصرار والترصّد.. قرّرنا أن نذبح في حراب العامية بعكس محراب الفصحى التي تحترم من الجميع وتذاع. قبلنا لعنة المتفاصحين والمتعالين لأنهم عزلوا اللغة عن احتياجات الناس. * الشباب : لكن ما نوعية الاتهامات «اللعنة»؟ الأبنودي : اتهموننا في ديننا وعقائدنا ووطنيتنا بأننا نسعى لفصل الأمة في زمن المدّ القومي ومع ذلك حمانا الناس بالتفافهم حولنا. عبرنا عن همومنا فاحترمونا. كنا أبناء زماننا في فترة جامحة. كان قتالنا عنيفا كي تتحول الدفة من الذات الخاصة الى الهم العام. وأنا شخصيا كنت حيث الناس ذهبت للسد العالي حينما كانت المعركة هناك. كان العالم يحاربنا هناك وذهبنا.. لا لنكتب لكن لنعيش ونحارب وانتهى السد العالي وجاءت النكسة فذهبنا الى مدن القناة وأنا شخصيا بقيت على شط القناة حين كان الكثير يفرّ من المواجهة. * الشباب : لكن الكثير من جيلكم يتاجر حتى الآن بمواقفه الحقيقية وغير الحقيقية؟ الأبنودي : أنا شخصيا تعرّضت للموت مرارا ودخلت السجن ولم أتاجر بذلك رغم أن البعض يتاجر بأشياء وهمية.. وأعتقد أن المواقف الحقيقية والإبداع الحق لا يموتان في الشباب. * الشباب : الأجيال السابقة احترمت اختلافكم عنهم ابداعيا لكنكم تقفون في موقف المعارضة من الابداع الجديد؟ الأبنودي : أنا لا أرفض الاشكال الجديدة التي يطرحها الشباب على وجه العموم. العكس هو الصحيح. * الشباب : لكنك تحابي من يقلّدك؟ الأبنودي : العكس هو الصحيح.. كل الذي كتب مثلي وسار على نهجي أخذت منه موقفا.. الشعر دائما نتاج رؤية المبدع للعالم حوله. * الشباب : لكن لماذا ترفض قصيدة النثر في العامية؟ الأبنودي : أنا رجل أحب الإيقاع والموسيقى.. والوزن جزء من القصيدة مثل الدم في الانسان. أحيانا تقول هذا إنسان دمه ساخن وآخر دمه بارد.. لكن ما يحدث في كتابات قصيدة النثر على العموم انها يسيطر عليها العراة. * الشباب : لكن هناك شعراء كتبوا قصيدة النثر بالفصحى وتخلّوا عن الايقاع بمحض إرادتهم؟ الأبنودي : على أية حال شعراء الفصحى قطعوا الصلة مع الجمهور بعد اعتناقهم الحداثة الغربية، وكانت هناك مؤامرة لعزل الشعر عن الناس.. لكن في العامية الأمر مختلف، القصيدة فيها هي رغيف عيش الوجدان الشعبي ولا يمكن كتابة قصيدة عامية ليكون شاعرها هو جمهورها فقط.. وإذا كانت هناك قصائد نثرية بالفصحى جيدة لا ينكرها إلا جاحد أو جاهل رغم أنها مفتقرة للموسيقى لكنها تخلق آلياتها من داخلها. * الشباب : ولماذا تكره هذا النوع من الإبداع في العامية؟ الأبنودي : أنا أنكر وجوده في شعر العامية، لأنه ليس لدينا تراث شعبي به قصيدة للنثر، وكل ما نطقه الفلاح المصري هو شعر موزون أما الحواديت فهي تنتمي إلى القصة، لكن لا يوجد في تراثه قصيدة نثر عامية والقصيدة العامية للناس فإذا كان هناك مبدع يريد أن يكتب بها فهو يريد أن يكتب بعيدا عن الناس والأساس في العامية هو الالتحام مع الجماهير وليس مداهنة عواطفهم.. الاحتفاظ بكل قيمهم. النقاد والشباب * الشباب : لكن بعض النقاد يحتضنون هذه الكتابة؟ الأبنودي : معظم من يحتضنونها منافقون.. النقد الآن عاجز. ليس عن مسايرة الجديد فقط لكن عن متابعة القديم الفاعل أيضا. قد يلمع الناقد صدقه، لكن لا يلمع الجيد ومع ذلك مازال في مصر نقاد شرفاء رغم هذا الزخم من اختلال المعايير النقدية. ولا يمكن أن تدوم بركة الزيت. * الشباب : السيل الجارف من النشر الآن.. ألا يدلّ على أن هناك حالة فوران إبداعي من الشباب؟ الأبنودي : هذا السيل يعني أنه الكم على حساب الكيف هو السائد.. ففي عام 1964 لم يجد صلاح جاهين من ينشر له رباعياته الشهيرة واضطرنا لعمل دار نشر باسم ابن عروس طبعت «الرباعيات» و»الأرض والعيال لي» و»حياد» و»جنية» لسيد حجاب.. ومع ذلك أخذ الناشر فلوسنا واتهمنا بأننا ضيّعنا.. وخربنا بيته.. الآن هناك استسهال في النشر.. كل واحد يكتب أي كلام تنشره له الحكومة. أنا مؤمن بمصر الى أقصى حدّ. هي امرأة تلد باستمرار، وسيأتي شعراء أفضل منا آلاف المرات.. وبدون الجديد لا نجد شرعية للقديم والعكس صحيح.. ولا بدّ من إعادة تقديم القديم وعلى ضوء ذلك يحدث التجاوز. * الشباب : لكن ماذا تصف حالة التناحر الفني؟ الأبنودي : الشعر ليس ميليشيات.. والاختلاف لا يعني عمل السكاكين.. قد يختلف موقفي مع موقف الشعراء الشبان.. لكن هذا لا يعني أنني ضد التجريب الى أقصى حد. * الشباب : ما وظيفة الشعر الآن؟ الأبنودي : له سمات خاصة.. له وظيفة مهمة الآن وأهمها إحياء الميتة في الوجدان العام، خاصة بعد أن فقدنا القدرة على النظر في الاتجاه العام.. نريد شبابا يعطي وعطاؤه يخجلنا من روحنا ويحولنا من شعراء إلى جمهور.