الليلة: طقس صاف والحرارة تتراوح بين 20 و27 درجة    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الممثل والمخرج محمد علي بالحارث    تونس تروّج لمنتجاتها الغذائيّة والصناعات التقليديّة في المعرض الإقتصادي والتجاري الصيني الإفريقي    صمود الأوضاع المالية على الرغم منحالة عدم اليقين الناتجة عن الحروب التجارية    السعودية وقطر تحتضنان صراع الفرصة الأخيرة نحو مونديال 2026    جلسة استماع للجنة التشريع العام بشأن مقترح القانون الأساسي المتعلق بتنظيم مهنة عدول الإشهاد    العثور على جثة حارس ملهى ليلي والنيابة تأذن بفتح تحقيق    توزر: يوم مفتوح للتعريف بفرص التكوين في مهن السياحة والمسار المهني لخرّيجيها    سليانة / كميات الحبوب المجمعة بلغت الى حدود اليوم الجمعة 283 الف قنطار    الإعلان عن المتوجين بالجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل    الدورة الأولى من الصالون الوطني للفنون التشكيلية من 14 جوان إلى 5 جويلية بمشاركة 64 فنانا من مختلف الولايات    إعادة تهيئة المقر القديم لبلدية رادس مدرجة ضمن برنامج احياء المراكز العمرانية القديمة باعتباره معلما تاريخيا (المكلف بتسيير البلدية)    وزارة الشؤون الثقافية تنعى المخرج والممثل محمد علي بالحارث    الصحة العالمية تحذر من طرق الترويج للسجائر    من قلب الصحراء التونسية : حليب الجمل يتحول الى الذهب الأبيض...روبرتاج يكشف التفاصيل    عاجل/ انطلاق تطبيق قرار منع استعمال الأكياس البلاستيكية في جربة    Titre    العثور علي جثة مواطن مذبوح في بوعرڨوب    القيروان: صياد يطلق النار على حارس غابات    نتائح حملة مراقبة الأضاحي: حالات ''بوصفير'' و أجزاء غير صحيّة من ''السقيطة''    كأس العالم للأندية: قميص الترجي الرياضي "الأفضل" في المسابقة    ليفربول : نحو إبرام ثالث أغلى صفقة في تاريخ كرة القدم    ترامب يعلّق على الضربات ضد إيران:'' القادم أشرس''    افتتاح الدورة الثامنة من المهرجان الدولي لفنون السيرك    هام/ نحو انجاز 3100 وحدة سكنية ضمن المرحلة الثانية للمساكن الاجتماعية..وزير التجهيز يكشف..#خبر_عاجل    جريمة مروعة: شاب 33 سنة ينهي حياة حماته..والسبب صادم..!!    في علاقة بملف الشهيد بلعيد: انطلاق محاكمة العكرمي و اللوز    مدنين: الميناء التجاري بجرجيس يستعد لاستقبال اولى رحلات عودة ابناء تونس المقيمين بالخارج    الترجي الرياضي : باسم السبكي يواصل لموسم آخر    نحو نفس جديد للسينما التونسية : البرلمان يدرس مشروع قانون لإصلاح القطاع    النرويجي فارهولم يحطم رقمه القياسي العالمي في سباق 300 متر حواجز    الفنانة بشرى تعلن عن طلاقها    عاجل/ توقف "قافلة الصمود" في سرت..ومصطفى عبد الكبير يكشف ويوضح..    مصطفى عبد الكبير: قافلة الصمود بخير.. ولكن التنسيق مع شرق ليبيا يهدّد بمصير العودة    عاجل : قبل صافرة البداية في مونديال الأندية.. رسالة عربية مباشرة إلى رئيس الفيفا    جياني إنفانتينو : هذا ما يميز كأس العالم للأندية عن مونديال المنتخبات    عاجل/ بعد الهجمات الإسرائيلية على ايران..توقف حركة الطيران فوق هذه الدول..    عاجل : فلاي دبي توقف الرحلات إلى عواصم عربية وإقليمية    100 يوم توريد... احتياطي تونس من العملة الصعبة    انطلاق خدمة التكفّل عن بعد بالجلطات الدماغية في جندوبة    رئيس الدّولة يؤكد على الخيارات الكبرى لمشروع قانون المالية للسنة القادمة    الغارات أسفرت عن تصفية 3 من كبار قادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية    إيران تعلن مقتل قادة عسكريين وعلماء نوويين إثر "الهجوم الإسرائيلي"    تحطم الطائرة الهندية.. ناجٍ وحيد من الكارثة يروي تفاصيل لحظات الرعب    طقس الجمعة: ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    عاجل: قوات الأمن بسلطات شرق ليبيا توقف سير قافلة الصمود    صابة الحبوب في تونس: تجميع2.186 مليون قنطار إلى غاية11 جوان    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    القضاء يصدر حكمه على مغني الراب 'سامارا'    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    جندوبة: المستشفى الجهوي بجندوبة يعلن عن انطلاق عمله بتقنيات جديدة تتيح التذويب المبكّر الجلطات الدماغية عن بعد    طرق فعّالة لإزالة بقع الحبر من الملابس البيضاء باستخدام مكونات منزلية    نابل: انزلاق حافلة صغيرة يسفر عن إصابة 9 أشخاص بجروح خفيفة    عاجل/ رصد متحوّر كورونا الجديد في هذه الدولة..    بطولة العالم للكرة الطائرة أكابر الفيليبين 2025: المنتخب التونسي يستهل لقاءاته بمواجهة منتخب الفيلبين    موعدنا هذا الأربعاء 11 جوان مع "قمر الفراولة"…    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    









أربع قصائد نثر: ستيفان مالارميه )Stéphane Mallarmé (1898 - 1842
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

*ترجمها عن الفرنسية عبد القادر الجنابي/ الترجمة هذه مهداة الى الشاعر الصديق كمال سبتي
إن كانت قصائده النثرية الاولى تكشف عن تأثيرات بودلير وبرتران، الا أن مالارميه يُعتبر صاحب ثورة شعرية خاصة به لا تقل عن ثورة بودلير الثانية المتمثلة في قصائده النثرية. وثورته هذه تتلخص في سعيه داخل اللغة الى نسف ثنائية نظم / نثر.
ففي نظر مالارميه «لي هناك نثر وانما هناك الابجدية ثم أبيات متراصة الى حد ما: مسهبة الى حد ما، فأنّى يوجد جهد في الاسلوب، يوجد نظم». وفي الحقيقة ان كل ما كتبه مالارميه، حتى رسائله تكاد تكون شبه بقصائد نثر: فأسلوبه يخضع لصرامة نحوية وتركيبية تنقيه من الكلام العادي. يقال أن مالارميه أنف، وهو في العشرين، من أن يرى الشعر يدرّس في الثانويات ويباع بطبعات رخيصة، إذ في نظره «إن الشيء المقدس والذي يريد ان يظل مقدسا يتجلل بالسر».
كتب مالارميه ما يقارب اربع عشرة قصيدة نثر وفي فترات متقطعة. لكنها تشكل العمود الفقري في محاولته تشذيب قصيدة النثر من رومانتيكية «أنا» الشاعر الذي من الآن فصاعدا سيتلاشى خلف الكلمات. والكلمات، في مشروع مالارميه، هي القضية الاولى. ذلك اذا كان مقصود نيتشه، في طرح سؤاله على الفلسفة، «من هو المتكلّم»، ليس في التوصل الى معرفة الخير والشر في الجوهر، وإنما اكتشاف المعنى، أو بالاحرى المتكلم، يجيب مالارميه بأن المتكلم هو الكلمة، في وحدتها، في تذبذبها الهش، وحتى في عدمها ذاته لا معنى الكلمة، بل كيانها اللغزي العابر (انظر «الكلمات والاشياء» لميشيل فوكو). ومن بين سطور هذه الاشكالية الكيانية العميقة يولد تنافر اغواء بين القارئ والنص، بين غرضية الشعر الاجتماعية مثلا وعدم قدرة الشعر على تلبية اي مطلب يبحث عنه القارئ، بين الكلمة كذات تعمل من أجل نفسها كايقاع، كفكرة قائمة بذاتها وبين القارئ الساعي وراء مجرد لذة نغمية أو الى جعل الكلمة مجرد وسيلة لمُثل يتصورها. والأروع أنه حتى المثل التي تتناولها بعض قصائده النثرية تكشف عن استحالة التعبير. ولا مفر، اذن، من هذا الانشطار في اللغة بين نظم ونثر، الواقع ومدوناته.
لكن، لعل مخرجا واحدا، تجلى له في اخر حياته: «رمية نرد»، قصيدة البياض هذه التي «ربما يخرج منها شكل، معاصر، يسمح، لما كان لوقت طويل، قصيدة نثر... وأن يفضي، ربطنا الكلمات بشكل افضل الى ما يمكن اعتباره قصيدة نقدية». فالشعر، ما دام منهله صوامت اللغة، حنين المتعدد، حنين خال من كل الاشواق المائعة، الى وحدته: اللغة.
في الحقيقة، إن حياة مالارميه المسكونة بالاشياء الذاوية هي حياة الجملة الشعرية المسكونة بالعدم، ببياض الصفحة، ونضال هذه الجملة في التحرر من ظلال النظم ومن احاسيس النثر العادية: الجملة الباحثة، في قبو التركيب وسلالمه المعقدة، عن نص تتحاشي فيه السرد. وقصائد مالارميه النثرية التي اعتبرها ذات مرة «لا شيء»، تبقى الفترة الاكثر صمودا من فترات هذه الجملة المعاشة في محاولة امحاء الشاعر في لغته الخاصة، الى درجة أنه يرفض الحضور فيها الا بصفته منفذا في مراسم الكتاب البحتة، حيث ينبثق الخطاب من ذاته» (فوكو). في لغة كل شاعر اصيل، ظل من مالارميه!
الظاهرة مستقبلا
سماء شاحبة، فوق عالم من الهرم يتوارى، قد تمضي مع الغيوم: خرق من أرجوان المغيبات البالي تنحلّ في نهر اكد عند أفق تكتسحه الاشعة والمياه. الاشجار تضجر، وتحت أوراقها المبيضة (لا بغبار الطرق بل بغبار الزمن)، ترتفع خيمة عارض الاشياء الفائتة: فوانيس عدة تنتظر حلول الغسق فتنعش وجوه حشد من رجال تعساء، غلبتهم الامراض الابدية وخطايا القرون، بالقرب من ضالعات معهم سقيمات حبا لي بثمار بائسة ستفنى معها الارض. في الصمت الجزوع، صمت كل العيون المتضرّعة هناك الى الشمس التي تغور، تحت الماء، يائسة الصرخة، كلام يملك القلوب، ها هو نصّه: «ليس من لافتة تتحفكم بالعرض الداخلي، لأنه لا يوجد الان رسام قادر على منحه ظلا كئيبا. أتيت بها حيّة (صانها العلم الاسمى عبر السنين) امرأة من سالف الزمان. جنون ما، في حالته الاولى، نقيّ السريرة، انتشاء ذهبيّ، شيء لا أعرف ما هو سمّته شعرها، ينثني مع رشاقة النسيج مدار وجه ينوّره عُري شفتيها المضرّج بالدم. لها جسد مكان الثياب العديمة الجدوى. والعينان الشبيهتان بحجر نادر، لا تضاهيان هذه النظرة الناتئ بها لحمها الهنيء: من نهديها البازغين وكأنهما مفعمان باللبن الابدي، والحلمتان نحو السماء، الى فخذيها الناعمين المحتفظين بملح اول البحار». متذكّرين زوجاتهم المسكينات، الصلعاوات المعتلات والمروّعات، أقبل الازواج متزاحمين: هنّ أيضا، بدافع الفضول، كئيبات، يردن أن يرين.
عندما يكون الجميع قد تأمّل المخلوق الماجد، بقيّة باقية من عصر ما لعين أصلا، فإن بعضهم غير مكترث، لأنهم لن يقدروا على الفهم، أما الاخرون، وهم ساهموا الوجوه، أجفانهم مخضّلة بالدموع الذاعنة، فسينظر بعظهم الى ا لبعض الاخر، في حين أن شعراء هذه الايام، شاعرين ان عيونهم المنطفئة تضاء ثانية، سيتوجّهون الى مصابحهم مخدّرين العقل هنيهة بمجد مبهم، مسكونين بالايقاع ناسين أنهم في عصر يدوم اطول من الجمال.
شكوى خريفية
مذ أن فارقتني ماريا ذاهبة الى كوكب آخر أيّهما، يد الجوزاء الطائر، أم أنت يا فينوس الخضراء؟ دمتُ اهوى العزلة. كم من أيام طوال قضيتها وحيدا مع قطّتي. وب «وحيدا» أعني بمعزل عن أي كائن مادي، فقطّتي رفيق سريّ، روح، لذلك بوسعي القول انني قضيت أيّاما طويلة وحيدا مع قطّتي، ووحيدا مع احد كتاب «الانحلال اللاتيني» الاواخر، إذ أحببت، منذ أن لم تعد المخلوقة البيضاء موجودة، بصورة غريبة ومستغربة، كل ما تختصره هذه الكلمة: سقوط. وهكذا فأن موسمي السنوي المفضّل، هو آخر أيام الصيف المتراخية، التي تسبق الخريف مباشرة، اما في النهار، فإن الساعة التي أتنزّه فيها، هي عندما تهجع الشمس قبل ان تغيب، مصحوبة بأشعّة من نحاس ا صفر على الحيطان الرمادية، ومن نحاس احمر على زجاج النوافذ، كذلك، فإن الادب الذي تنشد روحي منه لذّة، سيكون الشعر المحتضر لآخر لحظات روما، ما دام أنّه لا ينمّ بأيّة حال من دنوّ البرابرة المجدّد الشباب، ولا يتعتع قطّ اللاتينية الصبيانية للنثر المسيحي الاوّل.
كنت أقرأ إذن واحدة من هذه القصائد الاثيرة (التي تجذبني اطلاؤها التجميلية اكثر من تورّد الصبا) ويدي تغور في فراء الحيوان الطاهر، عندما راح احد الاراغن الجوّالة يشدو أسفل نافذتي بكل تراخ والتياع. كان العزف يجري في الشارع العريض المشجّر بالحور التي تبدو لي أوراقها، حتى إبّان الربيع، كئيبة منذ ان مرّت ماريا من هناك، للمرّة الاخيرة، مع شموع طويلة. إنّها لفعلا آلة أشجان: فالبيانو يتوهّج، والكمان ينير النياط الممزّقة، لكن الارغن الجوّال، عند غسق الذاكرة، يجعلني احلم متيئسا. الآن وقد هبّ يدندن بكل بهجة نغمة شائعة تبعث الحبور في قلب الضواحي، نغمة مألوفة، لا تجاري العصر: ترى، من أين تأتى للازمتها ان تؤثّر في نفسي، فتجعلني أبكي مثل ارجوزة رومانسية؟ لقد استأنيت في تذوّقها، فلم ألق من نافذتي بدرهم خشية أن أكلّف نفسي فأدرك أن الآلة لم تغن وحدها.
قشعريرة الشتاء
ساعة «ساكس» الدقاقة هذه، التي تؤخر وتدقّ وسط أزهارها وآلهتها الثالثة عشرة، لمن يا ترى كانت تعود؟ فلتراعي، إنها جاءت من «ساكس» مع ربات الماضي البطيئة.
(ظلال فريدة تتدلّى من الزجاج البالي)
تُرى من تمرّى فيها؟ أواه، إنّي لموقن أن اكثر من امرأة حمّمت في هذا الماء خطيئة جمالها، إذ لو أطلت التحديق فيها لكنت رأيت طيفا عاريا.
يا لك من سافل، غالبا من تردّد أقوالا بذيئة.
(أرى أنسجة عناكب في اعلى الشاهقة).
خزانتنا ايضا عتيقة جدا: تأمّلي خشبها الكئيب كيف تضفي هذه النار عليه حمرة، الستائر الباهتة نالتها رثاثة كذلك، وقماش الارائك المتحلّلة الدهان، والصور القديمة على الحائط وسائر اشيائنا القديمة؟ ألا يبدو لك أن، حتى طيور البنغال والطائر الازرق، قد بهتت ألوانها على مرّ الايام.
(لا تفكّري في انسجة العناكب التي ترتعد في اعلى النوافذ الشاهقة).
إنّك تحبين كل هذا، وذلك هو السبب الذي مكّنني من العيش قربك. ألم ترغبي، أيّتها الاخت التي لها نظرة الامس البعيد، بأنه كان يجب ان تظهر، في احدي قصائدي، هذه الكلمات «رونق الاشياء الذواية»؟ الحوائج الجديدة تنفّرك، فهي تخيفك، أنت ايضا، بوقاحتها الصارخة، مما ستشعرين بالحاجة الى استهلاكها، وهذا صعب جدا على الذين لا يستطيعون الاضطلاع.
تعالي، اغلقي تقويمك الالماني القديم، الذي تقرأينه باهتمام، رغم ان مائة سنة مرّت على صدوره ولقد مات جميع ما يبشّر به من ملوك، وممدّدا على السجاد الاثري، مستندا الى ركبتيك الكريمتين في ثوبك الحائل اللون، يا أيتها الطفلة الساكنة، سأحدّثك طوال ساعات، فلم تعد ثمة حقول والشوارع خوال، سأحدّثك عن أثاثنا... أنت شاردة الفكر؟
(في أعلى النوافذ الشاهقة تقف أنسجة العناكب هذه).
وسواس المماثلة
أمن كلمات غير معلومة غنت على شفتيك، أوصال منبوذة لجملة عبثية؟ خرجت من شقتي باحساس حقيقي وكأنني جناح مسترسل وخفيف، منسرحا فوق أوتار آلة، يحل محلّه صوت ناطق لكلمات بنبرة هبوطية: «الماقبل الاخيرة» على نحو الماقبل الاخيرة ينهي البيت وماتت ينفصل عن التوقّف المحتوم أكثر عبثا في فراغ المعنى. خطوت بضع خطوات في الشارع فميّزت في رنّة «ما» وتر الآلة الموسيقية المشتدّ الذي كان منسيّا والذي كانت الذاكرة الجليلة قد مسّته فعلا بجناحها او بسعفه واصبعي على حيلة اللغز، ابتسمت ومتمنيا أماني فكريّة طفقت أتلمّس تأمّلا مختلفا. عادت الجملة، تقديريا ومتخلّصة من سقوط سابق لريشة أو غصن، مسموعة من الآن فصاعدا عبر الصوت، الى أن باتت في نهاية المطاف بمفصلها وحدها، لتحيا من شخصيتها هي. أخذت (غير مقتنع باحساس) أقرأها في نهاية بيت شعريّ ومرة، كمحاولة، أوفّق بينها وكلامي، لا ألبث أنطقها بعد «ما قبل الاخيرة» بصمت أجد فيه لذة مضنية: «الماقبل الاخيرة» ووتر الآلة، من كثرة امتداده في النسيان على رنّة «ما»، قد انكسر بلا شك، فأضفت بأسلوب ابتهاليّ: «ماتت». لم أكف عن العودة الى أفكار مفضّلة، متعللا، حتى أهدئ نفسي، بأن ما قبل الاخيرة لهو، يقينا، مصطلح معجميّ يدلّ على المقطع قبل الاخير للالفاظ، ويمكن تفسير ظهورها كبقيّة جهد لغويّ لم تنكر كليّا، جهد تنتحب خلاله يوميا حاستي الشعرية النبيلة لتوقّفها: الرنين عينه ومظهر البهتان الذي تتحمله سرعة الاثبات السهل، كانا سبب هم شديد. ضائقا بالأمر ذرعا، صمّمت متمتما بنبرة قادرة على العزاء: «ماتت الماقبل الاخيرة، إنّها ماتت، فعلا ماتت الماقبل الاخيرة اليائسة»، ظانا بذلك ارضاء القلق، وليس دون ا لأمل السري بدفنها في تضخم الترتيل، عندما شعرت، يا للرعب جرّاء سحر متوتر وسهل الاستنباط أن لديّ، ويداي يعكسهما باب المحل المزجّج تؤديان حركات مداعبة تهبطان فوق شيء ما، الصوت ذاته (الاول، الذي كان الوحيد قطعا).
لكن اللحظة التي يحلّ فيها تدخل ما فوق الطبيعة الذي لا يعترض عليه، وبداية انقباض نفس يحتضر تحته فكري الذي كان سيّدا منذ حين، هي عندما، رافعا عيني، رأيت، في شارع تجار التحف والعاديات الذي سلكته بحكم الغريزة، أنّني كنت أمام محل عوّاد يبيع آلات موسيقية عتيقة معلّقة على الحائط، وعلى الارض، سعف اصفر واجنحة منزوية في ا لظل، لطيور غابرة. لذت بالفرار كمثل شخص غريب ربّما حكم عليه ان يلبس ثوب الحداد من أجل «ما قبل الاخيرة» التي لا يمكن تعليلها.
* فضلت أن أترجم Le démon بوسواس عوضا عن «شيطان» لأن المعنى المراد هنا هو الهوس الذي يسيطر على الذهن حد الشعور كأن شيطانا يحرك الامر. وأعتقد ان «وسواس» يؤدي معنى الشيطان وفي الوقت ذاته الهواجس الذهنية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.