الاعلان عن موعد انطلاق الاستخراج الحيني لوثائق السفر    العاصمة: وقفة احتجاجية أمام سفارة فرنسا دعما للقضية الفلسطينية    نشرة متابعة: أمطار غزيرة غدا الثلاثاء    الكاتب العام الجهوي لنقابة التاكسي يروي تفاصيل تعرّض زميلهم الى "براكاج"    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    %9 حصّة السياحة البديلة.. اختراق ناعم للسوق    خطير/ منحرفون يثيرون الرعب ويهشمون سيارات المواطنين.. ما القصة..؟!    وزير الخارجية الأميركي يصل للسعودية اليوم    نقطة ساخنة لاستقبال المهاجرين في تونس ؟ : إيطاليا توضح    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    الدوري المصري: "معتز زدام" يرفع عداده .. ويقود فريقه إلى الوصافة    عاجل/ تعزيزات أمنية في حي النور بصفاقس بعد استيلاء مهاجرين أفارقة على أحد المباني..    منوبة: تقدّم ّأشغال بناء المدرسة الإعدادية ببرج التومي بالبطان    مدنين : مواطن يحاول الإستيلاء على مبلغ مالي و السبب ؟    17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    سليانة : اصابة 4 ركاب في إصطدام سيارتين    الحماية المدنية: 17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    فتح تحقيق في وفاة مسترابة للطبيب المتوفّى بسجن بنزرت..محامي يوضح    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    التونسيون يتساءلون ...هل تصل أَضحية العيد ل'' زوز ملايين'' هذه السنة ؟    أخيرا: الطفل ''أحمد'' يعود إلى منزل والديه    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    كأس الكاف: حمزة المثلوثي يقود الزمالك المصري للدور النهائي    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    عاجل/ ستشمل هذه المناطق: تقلبات جوية منتظرة..وهذا موعدها..    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    تونس توقع على اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    قرار جديد من العاهل السعودي يخص زي الموظفين الحكوميين    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    كاتب فلسطيني أسير يفوز بجائزة 'بوكر'    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    50 % نسبة مساهمة زيت الزيتون بالصادرات الغذائية وهذه مرتبة تونس عالميا    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«حاملو الفانوس في ليل الذّئاب»
نشر في الشعب يوم 17 - 09 - 2011

الأصوات الشعرية الجديدة رافد من روافد الشعرية العربية الحديثة
إن قاعدتي الذهبية التي أدركتها شاعرا بعد هذه السنوات هي ان تحترف فن الصمت والانصات الى الأشياء وان تتكلم بأقل عدد ممكن من الكلمات. أن تبتعد عن الصراخ والضجيج داخل النص وخارجه. ومن خلال معاشرتي للنصوص الشعرية التونسية تبيّن لي أن أكثر الأصوات الشعرية رسوخا في التجربة نصا ورؤية هي تلك التي اختارت الهدوء بعيدا عن الافتعال والتكلف واختارت الحَفْرَ في النص تركيبا وإيقاعاتٍ وصورةً وأساليبَ وأدواتٍ.
سأتحدث عن مرحلتين في الشعر التونسي تعتبران حسب رأيي أساسيتين في تحديد مستقبل هذا الفن الخالص. الأولى تتعلق بالتسعينات باعتبارها لحظة انفجار على مستوى الكمّ والتجريب، اضافة الى سيطرة هاجس قتل الأب ومارافقها من تضحم للأنا وإغراق في البحث عن الذات حتى ان بعض النقاد أطلق على مرحلة التسعينات أنها مرحلة «النار التي تتدفأ بها جميع النصوص فالوجوه شَتَّى والمرآة واحدة» ورغم رجاحة هذا الرأي في اكثر من موضع فهو لا يمنع من القول بأن بعض الاصوات الشعرية أفلتت من هذا السجن بحثا عن الفرادة والتميز.
ومن بين الاصوات الشعرية المتميزة في التسعينات أذكر ميلاد فايزة ورضا العبيدي ومجدي بن عيسى ونصر سامي ويوسف خديم الله ونزار شقرون والهادي الدبابي وآمال موسى والطيب شلبي وفتحي قمري وعبد الواحد السويّح وعادل المعيزي.
لا يُقرأ الشعر داخل سياج التجييل ولكن لضرورة منهجية تطلب الأمر رصد بعض الظواهر الجامعة بين نصوص هؤلاء. ورغم ما يثيره الشعر التونسي من اشكاليات كثيرة فانه متحرك وديناميكي بامتياز، حيث تفاجئك الاصوات الجادة في كل عشريّة.
ومن هنا ارتأيت ان أنبّه الى خطورة العشرية الاخيرة من جهة كونها قدمت لنا أصواتا جادة يسكنها هاجس التجريب وروح المغامرة في بحث واضح عن تخريب استراتيجيات القراءة وآفاق التقبّل.
ويمكن رصد تغيرات كثيرة مسّت الشكل والبناء (والمُعْجَمَ) والمضامين والرؤى. واستنادا الى قراة متمعنة لهذه النصوص نجمل هذه الخصوصيات في عناصر كبرى.
I) التجاوز الواضح لإشكاليات التسمية والانتصار للشعرية مبحثا.
II) تنوّع الرؤى تأثرا بما وصلت إليه الشعرية العربية الحديثة في سياق التجربة الشعرية في العالم.
III) الوعي بقيمة السّرد والتفاصيل في الشعر.
IV) الاشتغال على المكان انطلاقا من الوعي بأن المحلي مفتوح على الكونيّ.
I) تجاوز إشكالية التسمية:
تجاوز الشعراء التونسيون الجدد إشكاليات التسمية وانكفؤوا على نصوصهم مشتغلين في ثناياها بحثا عن الحرائق ومواطن الادهاش والطفولة. فتخلى أغلبهم عن كتابة قصيدة العمود لأنها لم تعد تستجيب لهواجسهم ورؤاهم. وانخرطوا في شكلين أساسيين هما قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وعيا منهم بأنهم سيذهبون بالقصيدة الى أقصاها في محاولة لاستعادة أسئلة الشعر الحقيقية خارج أحابيل التسمية. مع ان بعضهم لم يتقيّد بشكل واحد فمزج بينهما بحثا عن الشعر، وثمة من عانى الى حد ما من بعض إكراهات الوزن فتجاوز اللغة ولكنه مأخوذ نهاية بأسئلة الشعر.
اختار الشعراء صابر العبسي ونزار الحميدي وفريد سيعداني قصيدة التفعيلة في دراية كاملة بالشكل وأساليبه وتجريبيته رغم بعض التجاوزات في اللغة.
واختار شعراء آخرون مثل زياد عبد القادر قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر في بعض مظاهرها لكن بشروط التفعيلة وجرّب قصيدة النثر في نصوص اخرى. ولعلي أطلق على منجزه «كسر الشعر بالنثر وكسر النثر بالشعر». في حين اختار سفيان رجب التجريب في الشكلين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر.
وثمة شعراء آخرون اختاروا قصيدة النثر مثل صلاح بن عياد وخالد الهداجي وجميل عمامي وأمامه الزاير التي أرى ان قصائدها بشروط قصيدة النثر رغم تجريبها قصيدة التفعيلة في نصوص ما. وأنور اليزيدي الذي حفر في النص الموسوم بقصيدة النثر بأساليب حديثة رغم تجريبه لقصيدة التفعيلة احيانا.
إن هذه الاصوات الجديدة في وحدتها وتجانسها تجاوزت قلق التسمية فيما هي تبحث عن الشعر، على ان تتوضح السبل لكل شاعر في ان يختار شكلا يتناغم ورؤاه في السنوات المقبلة بعد نضج أو اختمار الرؤى.
II) تنوّع الرؤى والانخراط في الحداثة عربيا وكونيا:
إن الانخراط في الحداثة الشعرية يبدو جليّا وظاهرا في النصوص. فهي نصوص مبنية على الرفض مسكونة بالتمرد بحثا عن هاجس المغايرة. «فالسراب لدى أنور اليزيدي له منقار صقر وصوت غراب» (قصيدة شبح بثياب سراب) و «السماء بلون البدايات مرفوعة دون أعمدة».
في حين يعلن زياد عبد القادر انه «لن يفرح حتى ينجلي الامر... يَغيم الدرب فيمرر كفّه في الماء».
بل يذهب الامر بصابر العبسي الى حد ان «حروف الجرّ أشهى من نبيذ الأرض فوق شفتي الحبيبة او المعشوقة».
ويتجلى هذا التمرد في اللعب الطفولي لدى نزار الحميدي «صنعنا نواعيرنا من معلبات الحليب وركضنا بها في مهبّ الريح». (قصيدة لعبة).
ويأتي الانخراط في الحداثة لدى أمامة الزاير من جهة العبث بالتفاصيل فهي تعيد اكتشاف العادي والمهمل لكن بنيّة التآمر على الواقع لأنه اكثر الاشياء التي تتآمر علينا: «قصّت قماشة وسمّتها البارحة... قصّت قماشة اخرى وسمّتها غدا».
III) السرد والتفاصيل:
استطاعت الاصوات الشعرية الجديدة ان تتفنن في السرد وان تعبث بالتفاصيل داخل النصوص فقد برهنت عن امكانات جبّارة في هذا المنحى مع الوعي بالحفاظ على هوية النص الشعري في تقاطعه مع ما ليس منه. لقد طوّعوا امكانيات النثر وجمالياته المختلفة لخدمة النص الشعري.
ففي قصيدة «أرض الكتب» لسفيان رجب طاقة سردية خدمت النص الشعري «وفي حياتي...
فتحت كتبا صفراء تبللها حيرتي
وأغلقت كتبا صفراء تحرقها معرفتي
ولم يأت عابر السبيل
الذي انتظرته عمرا كاملا.
والحقيقة أنني كنت أجتهد في إخصاب مخيلتي
بالزيف والكذب
حتى لا يأتي...»
مع أن الاتكاء على السرد يختلف من شاعر الى آخر فيكون السرد مقصودا لذاته تحتّمه القصيدة متخذةً الحكي طريقا الى بناء القصيدة مثل سفيان رجب. في حين أن تقنية الاسترجاع والعودة الى ينابيع الطفولة تطلبتِ السّرْد تقنيةً مثلما يتجلى لدى جميل عمامي في قصيدة طفولة «وأنا أقف على حافة الثلاثين، فكرت بالقرويات وهن يغسلن صوف الخراف فجرا على حافة النبع، وأمي التي تعطرت برائحة الخبز الساخن. وبرشوات جدتي لي يوم الأحد حين أجلب لها جرّة ماء من الحقل المجاور لمنزلنا».
أما السرد لدى خالد الهداجي فتتطلبه الفكرة البانية للنص ففي قصيدة «ريح الهوامش» يكون السرد كشفا لحالة انتظار أو قلق أو عزلة «لا أحد يطرق بابي، صبيحة الأحد، لا أحد يمر بذاكرتي، لا أحد يمر بي... سوى الجرذ العجوز في تفقده اليائس لأواني الطبخ. كان يتوقف لينظر إليّ شزرا، رغم أني تجاهلت طيلة الليل قضمه لأوراقي المبعثرة» وينسحب الأمر على قصيدته السردية «حين كنت نائما».
ومن نصّ «الجدة» يحاول صابر العبسي اتخاذ تقنية السّرد تجربة عبور ليجعل النص مفتوحا على ذرى درامية تؤسْطر الواقع.
«الجدّة كالنخلة في التلة أقصى القرية.
ممسكةً موّالا من قرنيه
صاحت باليأس منذ طفولته...
لا تبصق على الأرض يا ولدي
إنها وجهك»
إن القصيدة لدى صابر العبسي نوع من الدراما والواقع أكثر كثافة من الحلم نفسه حيث يكون الواقع أسطورةً والأمكنةُ فضاءً لها.
أما العودة الى الطفولة والأمكنة لدى نزار الحميدي فقد جعلت السرد خادما مطيعا للشعر «عند البطومة (نوع من الأشجار) تلك الشجرة، حيث النسوة يتركن الله ويعقدن خيوطا في الأغصان، يوقدن شموعا، يلقين نقودا في قلب الاشجار... عند الشجرة ألتقط القطع النقدية، ألقيها في جيبي وبكمّ قميصي أمسح سيل مخاط يتأرجج من أرنبة الأنف وأحكّ بعنف رأسي، لم أتعرف بعد على الشامبو...» (من قصيدة شمس مغيلة).
جرّب أغلب الشعراء تقنية السرد المتلبسة بالتفاصيل، لكن أمامة الزاير أغرقت اكثر من غيرها في غسلنا بمطر التفاصيل على حساب السرد، ولكن تلك التفاصيل في تناغم كبير مع دلالات القصائد حيث نقرأ النتائج: الغثيان، القلق، الهستيريا، الهشاشة، الرفض، التمرّد، الشقاء الطفولي، تعرية الواقع حيث «الغياب يلطخ وجهه بكل البودرة وماكياج السهرات الرخيصة المبعثر عمدا على الكومودينو... للريح تصفّر في الشوارع ذئبا يلهث خلف أقدامنا الصغيرة... للماتراك تتصيد أحلامنا، لرصاص البوليس مثل عاهرة تنصب فخاخا...» من قصيدة (واحد... اثنان... ثلاثة).
«عدسات لاصقة،
شعر أصفر مستعار
بودرة للتجميل
عطر خليجي فاجر
ثوب مكويّ حدّ الضجر
كلمات لَبِقةٌ تستعير رموشها من حقل طُفيْليّ
وطُحْلب لإتقان حروب كتم الأنفاس
أظفار مطلية جيدا
وأقنعة كثيرة تلائم كل الولائم
عفوا ، سيدي
انتظر ، سيدي
هذه أشياؤك أردّها عليك»
فكل التفاصيل جاءت تقريبا لخدمة المعنى والدلالة التي هي الرفض والتمرّد... والسرد المبطّن لم يكن مقصودا لذاته.
إن عنف التجريب وفرادته بناء ورؤية وتقنية يتجلى في قصيدة «أول اختبار للظل» لأنور اليزيدي (تسألني طفلة صغيرة أرعبها ظلها وهي تجربه على الحائط بيديها.
ما هذا الشيء
قلت هو ظلك...» الى آخر القصيدة.
فتقنية الحوار هي الطاغية بامتياز... كل ذلك لخدمة العمل البدائي للإدهاش والتخييل المتأتي من التركيب والايقاع الذي فتح لنفسه إمكانات أخرى.
IV) المكان أو شهوة المتخيّل:
للمكان سطوة في الشعر التونسي الحديث، ويتجلى في نصوص الشعراء الجدد اكثر وعيا وحضورا وانتباها وتفطّنا. لقد كفّ شعراؤنا الجدد عن اعتبار المكان سلبا ودمارا خلافا لتجارب كثيرة همّشت المكان وسلبته حريته باعتباره فضاءً لسيولة الحياة أو «عُشّ للألفة وأحلام اليقظة» على حدّ عبارة غاستون باشلار...
يحضر المكان مثل السرد والتفاصيل لدى صابر العبسي خدمة لدرامية القصيدة دوما.
«والجدار الأخير
جدارالمحطة
غابة لوز
بقطعة فحم رسمتك فيه»
أو هو خلق لأسطورة جديدة:
(البحر قبلك
كان مربوطا كعصفور الى قدمي
بخيط واهن
البحر منذ رآك عارية جُنَّ وفرّ من اسطبله الحجريّ
فأغرق قريتي
البحر ثور هائج يعدو ورائي باكيا...
البحر... هذا البحر يسأل عنك
منذ رآك
يسأل كيف يصبح امرأةً)
والمكان استعادة طفولات منسيّة لدى جميل عمامي
(فكرت بخوف أختي الصغيرة،
من نباح كلاب «المالوسي» ليلا،
في صياح ديكة «الدّوار» دفعة واحدة قبل آذان الفجر بلحظات...
فكرت بكل هذا وأنا أقف وحيدا في الشرفة
بينما كان ليل «باب سعدون»
ينثر فوقي حفنة هائلة من نجومه الفضية».
فالمكان لدى جميل عمامي جدار شعري ضدّ المدينة أو هو ملاذ، فمحاولة استنهاضه هي محاولة للابقاء على الحلم إمكانا جديرا بالحياة مجددا.
والمكان لدى نزار الحميدي مصالحة مع الذات وترميم لها
«مُسْتَلْقٍ عند الشجرة
بين الزعتر والشيح وقرن الجدي
كان يشمّ الأرض ويمضغ لبّانا
يبصق عند الشجرة... ويبول...»
«أمشّط أشجار البطوم الرابض عند التلة
أتلفّع بالنار
وبخور النسوة...»
ولا يحضر المكان لدى أنور اليزيدي الا في حمّى البحث عن شيء آخر يفسّر به عالما لا يحتاج فهما أو تفسيرا بل تأويلا واعادة قراءة...
(وتحت شُجَيْرة توت نامت ذاكرتي
أغلقت النافذة، الأبوابَ،
وأطفأت المصباح
طردت بقايا الظلمة والأصوات
كنست الدفء بِدِقّة ربّة بيت
لم أترك في الغرفة رائحة أو طعما
لم أترك شكلا أو لونا
حتى البرد قطعت أصابعه
من أين يحي الدمع إذن؟)
فمرمى القصيدة لم يكن البحث في المكان بل من خلاله نكون بصدد أسئلة أخرى تتعلق بالحافّات الغامضة على حدّ عبارة غاستون باشلار.
ونفس الأمر ينسحب على قصيدة «سَيَلان» لأنور اليزيدي.
ولا يحضر المكان إلا خدمة للشعر ي في احتمالاته وإمكاناته التي نقرأ بها العالم، ففي قصيدة زيادة عبد القادر (الريح الرخوة تشتدّ. الغرفة تختضّ (الباب المشرّع للغيم، مصاريع النافذة، طاولة الابلنز، صفّ الكتب المشري حديثا، بعض دراسات في علم النفس وفي الفلسفة، مسوّدات قصائد لم أكملها، وروايات لم يطلبها أحد غيري) وكذا المرآة المهجورزة تختضّ : كأن غزالا مذعورا سينطّ من البلور ليبني عشه في الركن!).
هنا يحضر المكان خدمة للفكرة الباشلاردية القائمة على نظرية المكان / العُش، حيث يكون العش بيتا للكائن ورَحِمًا طفوليا ضاربا في البدّء.
فمن خلال المكان تنفتح أسرار النص في حبكة درامية عالية تذكّرنا بتجربة شعرية عربية حديثة مثل تجربة سعدي يوسف الذي نراه أكثر الشعراء العرب اشتغالا على المكان والسرد والتفاصيل حيث التجريب بامتياز مما خلق لدى شعرائنا آفاقا جديدة لكن بخصوصياتنا نحن، مما يعطي مذاقا جديدا للشعر العربي.
ويتجلى نجاح آخر من نجاحات القصائد التي اشتغلت على المكان وطوّعته لخدمة الرؤية الجديدة التي تجعل المكان طريقا وليس نداء مثل قصيدة «رسالة السجين الى أمّه» لخالد الهدّاجي،
«الغرفة الشاغرة
غرفتي في بيتنا العتيق
سيملأ فراغَها بكاؤك
أعرف أن صوري القديمة
وأنت تنفضين الغبار عنها
ستخبرك أني كنت أنفض الغبار عنها
ستخبرك اني كنت أنفض الغبار عن الضوء
الذي ستدفعين ثمنه غاليا».
ويحضر المكان متلاشيا في التفاصيل حيث يكون النص متعثرا بالتفاصيل الأكثر إدهاشا، وهذه الكاميرا عبارة عن «عين الصقر» في الرواية الامريكية على حدّ عبارة سعدي يوسف... ففي قصائد أمامة الزاير مطر من التفاصيل، فالمكان هامش والتفاصيل بؤرة ومركز (جدران، طواحين، عكّاز، سور الحديقة، ألغام، أصابع الديناميت، الملح، الطريق، البودرة، ماكياج، كومودينو، كمنجات، صوت «ليوْ فِرِّي» الريح، الشوارع، ما تراك، فخاخ، دم، خبز، مشانق، فراغ، جبّانة، قماشة، لسان، حبل السرة، أزهار الشرفة، رجل مُقيّد، كعب حذاء، حبال، مقهى، رغوة، فنجان، قط، ضوضاء، سكارى، نهج مرسيليا، مقهى الكون، معطف، أسنان متآكلة، بطن، المذيع، قفازات، مشط شعر، حذاء مثقوب... الخ».
إن حضور التفاصيل بدقة يجعلنا لا نغفل عن اعادة ترتيب هذه التفاصيل لأنها تشبه أمكنةً ما في ذاكرتنا البصرية والحيوية. وبالتالي لا يمكن إغفال المكان فهو حاضر في طبقة ثانية وجوبا لدى أمامة الزاير خاصة.
لقد منحنا المكان طعما خاصا للقصائد التونسية، وغرقنا في مطر التفاصيل الصغيرة. فقد وفّرت لنا النصوص الجديدة لذة في القراءة وإمكانات هائلة للتأويل والبحث في المعاني والدلالات الحافّة.
ممّا يجعلنا نقول بخصوصية الشعر التونسي المعاصر وفرادته وتميّزه في أكثر من مكان.
وسنخصص بحثا آخر يهتم باللغة وطرائق تشكيل الصور الشعرية والرؤية الجديدة للايقاع في الشعر فنّا خاصّا بل غريزيّا لدى الشعراء المعاصرين في بلادنا. فنصوص هؤلاء وضعتنا مباشرة امام الهاوية والحتف لأنها عصيّة صعبة المراس مستقبليّة تعصف بالاشياء الجاهزة سلفا.
الشعراء الجدد ليسوا يتامى إنهم أكثر من أب في المستقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.