* محمد الشدادي (القصر الكبير المغرب) لا تستهدف هذه الورقة تقديم تلخيص للمفاهيم التي يعالجها الدكتور علي القاسمي في مؤلفه «مفاهيم العقل العربي»، ولا تتغيا عرض مضامينها أو الوقوف عند القضايا المتعالقة معها، معرفيا وروحيا، وذلك لسببين: يتصل أولهما بطبيعة الكتاب الذي يتميز بغزارة الأفكار المنتقاة بعناية فائقة من مظانها المتنوعة، والمثبّتة بمهارة متناهية في سبائك المنتوج التحليلي المشخص لطبيعة المفاهيم، والمساهم في تأصيل أنساقها الثقافية العاكسة لحركية العقل العربي وخصوبته. ويتمثل ثاني السببين في ضرورة احترام القارئ بالسعي الى تحريك وعيه باتجاه قراءة الكتاب، بدل المصادرة على المطلوب من خلال تركيب النتائج التي أسفرت عنها مجهودات المؤلف في التنقيب والعرض والتحليل والتقويم، وتقديمها جاهزة للاستهلاك خارج مدارها الحيوي. فمن شأن هذا الوسيط أن يتحول الى حجاب قد يؤدي الى إعفاء خاطر المتلقي وقتل روحه الانتاجية. وبإشراكه في إحياء طقوس الاحتفال بأعراس الفكر، والاستمتاع بمعاناة اجتراح حقيقة المفاهيم من جسد الكتابة، انتصار للقراءة وتبديد للوهم بجدوى ما يمكن أن يقوم بديلا عنها. كما أن هذه الورقة لا تروم الاقتراب النقدي من الكتاب، بالكشف عن خلفياتها المعرفية الكامنة وراء تحديد مفهوم العقل الذي استوت في كنفه المفاهيم مدار المعالجة التحليلية التركيبية. ولذلك، ارتأيت تأجيل استشكال العلاقات الناسجة لشبكة توليد المفاهيم في بنية العقل العربي، وردّها الى منابعها الثقافية التي تمتح منها خيوط المفهوم بنحو ما تتميز بلون خاص يساهم في تكوين الصورة الدلالية على مستوى الشكل والتشكيل معا. بعيدا، إذا، عن المساءلة الإبستمولوجية التي تستهدف اختبار الوضع المعرفي لفلسفة الاطار الذي يصدر عنه الباحث في تشييد تصوراته وتوجيه فعاليتها العلمية نحو ذاتها.. تأتي هذه التأملات في شعرية اللغة وخصوصيات الخطاب الذي صاغ به الدكتور القاسمي مؤلّفه «مفاهيم العقل العربي» الصادر في شهر جانفي 2004 عن وزارة الثقافة بالدارالبيضاء. ولعلّ أهم ما يميز هذا الكتاب تيسيره المعرفة العلمية ببلاغة وظيفية على مستوى الفاعلية والتأثير في المتلقي، لأنه يضايف بين الاقناع والامتاع بنحو ما تتمفصل عبره العبارة والفكرة في بناء المفهوم، فجداول الكلام فيه تجري متدفقة من ينابيع الفكر، محوّلة صحراء التجريد الذهني والتعميم المنطقي الى بساتين للجمال الحسّي، والاستمتاع الروحي والعقلي معا. وذلك في انسجام يكاد يخفي توتر التحول ومخاض الولادة، تماما كما تتفاعل الرؤيا الجمالية مع أنظمة التصوير الحسي باللغة، لتستوي في مملكة الإبداع كائنا ديناميكيا ذا قدرة فائقة على تجديد حياته عبر ما يستضمره من إمكانات تأثيرية متنوعة. من هنا، تتأكد خصوصيات الكتاب وجدّته المنبثقة من جدل التقاطع المعرفي بين بنيتي الإنتاج والتأويل. وهذا يعني أن العمليات التحليلية الموجهة لفعل التأويل متخلّقة من رحم السيرورات التركيبية التي يعتمدها العقل في تكوين المفاهيم وإنتاجها. هكذا تتعاظم قدرة التحليل على التخفف من أثقال البنى التركيبية التي يعتمدها العقل العربي في بلورة المفاهيم، وتحويل المعرفة بها من بنية الغموض العمودية الى بنية الوضوح الأفقية. وعلى هذا النحو، تتحرّر الكتابة عن المفاهيم من سطوة التجريد الفلسفي، ومن تعقيد البحث الفيلولوجي، لتؤسس من خلال التحليل الثقافي العميق والرصين وجودها الأصيل بعيدا عن التقعّر اللغوي، وجلبة الاستهلاك الاصطلاحي الأجوف. وفي هذا ما يمنح كتاب «مفاهيم العقل العربي» خاصية جوهرية نادرة، قلّما نجدها في مألوف الكتابات النقدية المنشغلة بقضايا العقل، والمتطلعة الى رصد تمثلاته الوجودية الكبرى. وتتجسد تلك الخاصية الجوهرية، التي يتحلّى بها الكتاب، في ما يمكن نعته بشعرية التفكير الفلسفي، حيث التعبير عن مضمرات العقل وتضميناته التركيبية المتطورة بلغة شفافة تلامس عبر آلياتها الجمالية أسرارَ انبثاق الصور الذهنية من رحم التفاعلات الوجودية المؤسسة لحركية الذات، والعاكسة لهندستها الفكرية والنفسية، بنحو ما تضعنا هذه اللغة المشبعة بروح التفكير الحسي المشخّص للحالات المختلفة، والمبيّن لتحولات المواقف المتباينة (أقول تضعنا هذه اللغة) على طريق الوعي الفعلي بأصالة العقل العربي، وبإسهامه الواضح والمتميز في منجز المعرفة الإنسانية. وعبر هذه الطريقة المتميزة في عرض مستويات المفهوم وسماته، والأسلوب المحكم في تناول خصائصه الجوهرية والعرضية، يتعاظم سحر اللغة الواصفة، فتحفر أبعادُها التحليلية مسالكَ في وجدان القارئ الذي يكتشف بذائقة ووعي جديدين الاشراقات التنويرية التي تمخّض عنها العقل العربي. وهذا يعني أن اللغة التحليلية التي صاغ بها الدكتور علي القاسمي مؤلّفه تتميز بسمة مزدوجة، لأنها تعزّز التماسك الداخلي للخطاب وترسي انسجامه على معايير التكافؤ والتكامل بين لغة النصوص الحاضنة لنصوص العقل العربي، وبين اللغة الواصفة بكل أبعادها الكاشفة وتلويناتها النابضة بالحياة. كما أنها لا تكف عن تنشيط ذهن القارئ، وتحريك وعيه باتجاه الاستمتاع الفكري بلحظات الكشف عن المناطق القصية التي لا يطالها الوعي العادي الذي يستعجل مصاحبة النصوص، فيبتعد عن استغوار أعماقها الدلالية، ومن ثمّ، عجزه عن استمرار لطائفها الروحية، وانصرافه عن استجلاء لُمعها الفكرية، ووقوفه دون فيوضها الوجدانية. ويبدو أن الدكتور علي القاسمي قد اعتمد في تجسيد الأبعاد الفكرية والرمزية للمفاهيم المستهدفة على مقاربة واضحة في تركيبتها، متكاملة في بنائها، فهي وإن كانت تسعى الى أن تكون استقصائية في انفتاحها على أمداء الثقافة العربية الاسلامية، والاستفادة من تلويناتها الجغرافية، استكشافا لما يبطن في تضاريسها المختلفة، واستثمارا لما تزخر به من مؤهلات تشهد على دينامية العقل العربي، فإنها لا تسقط في آفة التلفيقية التجميعية المفتقرة لما ينظم تراكمها على أساس من الوعي النقدي المطلوب. وقد تيسر للمؤلف أن يجمع في ضوء هذا الوعي النقدي الى جانب التمثل الفكري المشبع بفلسفة العلم في الاقتراب من مستويات تكوين المفاهيم، سلامة الذوق الجمالي الكفيل بخلق موقع للتفاعل النقدي مع ما تنطوي عليه النصوص المعالجة من إشراقات روحية، وانزياحات شعرية، وإلماعات فكرية. وعلى أساس من هذا الوعي النقدي المزدوج، تتكشّف مضمرات المعرفة المفهومية، فتتعزز أنساقها الذاتية بنحو ما تدعّم حقائقها في بحر المعارف المختلفة التي يستقطرها العقل العربي في إمداد آلياتها بأسباب الحياة. ولما كان الكاتب مدركا لخطورة ما يقبل عليه، مما يتطلبه موضوع في المعرفة الفلسفية من دقة وتجريد وعمق وخطة منهجية وجهاز مصطلحي.. يمكن أن يجمّد مياه الاتصال والتواصل مع القارئ غير المتخصّص في الفلسفة، فقد توسّل من أجل تحقيق مرامه بثقافته العميقة والمتنوعة في الدين والآداب والقانون والتربية والفلسفة وعلم اللغة التطبيقي، إضافة الى خبراته العلمية والمنهجية الغنية في مجال المصطلحية وبناء المعاجم اللغوية العامة والمختصة. وقد أبان الباحث، في جميع مراحل الكتاب، عن اقتدار مدهش على امتلاك ناصية اللغة وتطويعها، عبر صهر تلك الأطر المرجعية، من أجل نقل العمق الفلسفي للمفهوم المشيِّد من قبل العقل العربي، بكل تداعياته الفكرية والنفسية والرمزية، بلغة أنيقة ميسّرة تنفذ الى دواخل القارئ فيتمثلها عقله على أساس من المشاركة الوجدانية المنبثقة من جدل التفاعل السيكولوجي المحفّز بأسلبة الصور العاطفية للفكر، وإحكامها بنوع التدرّج التحليلي الذي يستجمع فروع الثقافة باتجاه استكشاف كيفية اشتغال العقل العربي في نزوعه نحو بلورة المفاهيم وتنظيم صورها الذهنية عبر تشييدها ثقافيا. وتأسيسا على ما سبق، أستطيع القول دون مبالغة ولا مجازفة إن «مفاهيم العقل العربي» للدكتور علي القاسمي كتاب لا بدّ أن يُقرأ. (**). (*) علي القاسمي، مفاهيم العقل العربي (الدارالبيضاء: وزارة الثقافة، 2004) (**) نص المشاركة في اليوم المخصص لتجربة الدكتور علي القاسمي وأعماله، المنظّم من قبل جمعية الامتداد الأدبية وجمعية البحث التأريخي والاجتماعي في مدينة القصر الكبير بالمملكة المغربية يوم 16 2 2004.