وصل الى عيادة الطبيب في الساعة الخامسة وهو الموعد الذي حددته له «السكرتيرة»... كان يصطحب والدته المسنة... سأل السكرتيرة عن دوره فقالت له الطبيب غير موجود... وقبل ان يحتج أضافت «هاو في الثنية»... كان ممتعضا مكسور الخاطر ولكن ما حيلته... تهاوى على كرسي حذو أمه... وسمر نظراته في حذائه... مرت نصف ساعة... ثم ساعة ولما انتصفت الساعة الموالية نهض متأففا وتوجه نحو السكرتيرة... احد الحاضرين لاحظ انفعاله فقال له بلطف «اذن ماذا نقول نحن... موعدنا كان الساعة الثالثة!!». توجه كالسهم الى السكرتيرة... وكان ردّها مباشرا: الدكتور تأخر في مصحة خاصة لاجراء عدة عمليات جراحية... «ربي يزيدو» ولكن ما ذنب هؤلاء... لو كان هو المريض لغادر العيادة... ولكن المريض هي أمه... فما حيلته... وأخيرا حل ركب الدكتور... كان مسرعا متحرقا... كان يلبس منديل قاعة العمليات... الوقت من ذهب... وجاء دور والدته أخيرا... دام الفحص دقيقتين: حل فمّك... سكر فمّك... والسلام أما هو فقال له «كحّ»... 35 دينارا... غادر العيادة وقلبه يوجعه... مازالت صدمة الصيدلية... في الطريق ظل يفكر في نبل مهنة الطب وقسم أبي قراط... واستحضر شراهة بعضهم... وحيادهم عن انسانية التعامل... المريض ليس رقما... ليس مجرد حصّالة (شقاقة) المريض في حاجة الى ان تنصت اليه وتتحدث اليه... ثم لماذا هذا النهم... ما هو دخل المواطن التونسي لتكون تسعيرة الطبيب على هذا النحو... دقيقتان ب35 دينارا... لهفة وجري وركض بين المصحات... على حساب ماذا؟ اللهم لا حسد على شرط أن لا يضمر الضمير ويتورم الجيب... والشرط الآخر هو ان يكون التصريح بالمداخيل شفافا وصادقا أو ان توجد الوسيلة ليكون كذلك حتى لا يبقى الموظفون المتعبون وحدهم في دعم خزينة الدولة للصالح العام... قد تقبل عقلية الربح السريع المتلهف من بائع «خردة» (مع احترامي للخردة) ولكن لا يمكن ان تقبل من طبيب وجد ليكون رحمة للناس... أقول هذا لانني أعرف أطباء وأساتذة لم يهزّهم بريق الدنيا ولم يتلهفوا على الاكس 5 وأخواتها... ولذلك فهم كبار بقلوبهم وبعلمهم وبرحمتهم بالناس الموجوعين...