تحل اليوم 30 أفريل الذكرى السادسة لرحيل الشاعر نزار قباني الذي ودّع العالم في مثل هذا اليوم من سنة 98 عن سن تناهز عاما، فهو من مواليد دشمق في 12 مارس 1923. نزار قباني الذي تنقل بين العواصم والمدن العربية والأوروبية منشدا شعره للناس الذين عشقوا قصائده بما فيها من حب ومن فجيعة واحتجاج ربطته علاقة مودة بتونس وجمهورها.. زار تونس في ثلاث مناسبات الاولى في شهر ماي 1964 اي قبل 40 عاما بدعوة من كتابة الدولة للشؤون الثقافية والاخبار وأنشد شعره في دار الثقافة ابن خلدون والمسرح البلدي بتونس وبصفاقس والثانية كانت بدعوة من الجامعة العربية في مارس 1980 بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيس جامعة الدول العربية والثالثة كانت في أفريل 95 بدعوة من ربيع الفنون الدولي بالقيروان، وشاءت الأقدار ان تكون تونس آخر بلد عربي يزوره قباني. «الشروق» تنشر في هذه الذكرى الكلمات الثلاث أو بالأحرى كلمتان وقصيدة ألقاهما في تونس الى جانب مرثية له كتبها الشاعر التونسي محمد الخامس باللطيف ودراستين عنه لمحمود رؤوف بلحسن وحاتم النقاطي. الكلمة التي ألقاها في الزيارة الاولى أيها الأحباء : يضرب قلبي للقياكم كما تضرب قلوب العصافير الصغيرة أول الصيف. وفي عيني تتجمع الدموع كما تتجمع الغيوم الرمادية في بدايات الشتاء. انه موعدي الاول مع تونس... والمواعيد الاولى دائما تعذب... وتشعل في القلب ألوف الحرائق... ربما تأخر موعدي مع تونس قليلا... ولكن تونس كانت دائما في عيني... وفي قلبي... وأنا شخصيا لم أكن بعيدا عن تونس، فقد سبقتني اليها قصائدي وحروفي. أليس لقاء الحروف هو أطيب أنواع اللقاءات؟ إنني أعرف أنكم تعرفونني، فالحرف هو الجسر القمري الذي وصل دائما بين قلبي وبين أجفانكم. لا شيء أروع من الشعر! انه ذلك العصفور المخملي الجناح الذي يدخل من كل النوافذ.. ويعمر عشه الاخضر... حيث يشاء... لا شيء أروع من الشعر! انه ذلك الساحر الذي يقلب النحاس... الى ذهب... ويحول حجارة الارض الى زنابق... لا شيء أروع من الشعر! أليس الشعر هو الذي هيأ لي مثل هذا الموعد المطيب معكم... والذي أبيعه بمواعيد الدنيا... فألف شكر لوزارة الثقافة والارشاد التونسية على دعوتها الكريمة لي.. هذه الدعوة التي تؤكد أصالة تونس ووجهها العربي وتفانيها في خدمة قضية الفكر... والكلمة الجميلة... إن الذي يعبد الكلمة الجميلة... يعبد الله في نفس الوقت... والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا وهكذا أثبتت تونس جمال نفسها وأثبتم جمال أنفسكم. وهكذا تتحول تونس أرضا وسماء وشعبا الى قصيدة شعر... وما أروع تلك النهاية!.. **** الكلمة التي ألقاها بالقيروان في الزيارة الثالثة أول مدينة عربية ترتكب فضيحة حب الشعر... وحبّ الشعراء.. شكرا... لمدينة القيروان. فهي اول مدينة عربية ترتكب فضيحة حب الشعر... وحب الشعراء.. اول مدينة تكحّل عينيها بقصائدنا.. وتعلقها كأسوار الفيروز في معصميها... وتكتبها بماء الذهب على قميصها... اول مدينة منذ العصر الجاهلي تعتبر القصائد ايقونات مقدسة، وتعلقها على جدران الكعبة. اول مدينة ليبيرالية تتزوّج الشعر بلا مهر... ولا وثيقة زواج، ولا شهود... ولا خواتم سوليتير.. ** القيروان تحبنا... انه اعتراف شجاع جدا... وطفوليّ جدا... وعذريّ جدا... في زمن عربي لم يبق فيه من الشجاعة شيء... ولا من الطفولة شيء... ولا مندم العذرية قطرة واحدة.. القيروان تقول في العشق كلاما خارجا على كل النصوص... كلاما لا يقوله الذين ولدوا من رحم الهوى، وشبّوا... وشابوا... وماتوا على دين العشق... القيروان تكتب أسماءنا على خزفها... وغيرها يحاول ان يمحونا ولكن تأكدوا ان كل المحايات لا تستطيع ان تمحو بيتا واحدا من الشعر كتبه شاعر يحترف الغضب والجنون لماذا تحبّنا القيروان؟ لماذا تفتح ابوابها لمجموعة من المجانين، هربوا من بيت الطاعة، وكسّروا زجاج القمر، وأربكوا حركة المرور في الشوارع العربية؟ بكل بساطة اجيب: ان الشعر والحبّ هما الطفلان اليتيمان اللذان لا يريد احد ان يعترف بهما والقيروان، هي المدينة العربية الاستثنائىة التي لا تخجل بأمومتها... ولا تتخلى عن حضانة اولادها... لذلك جئنا، نحن الشعراء العرب الذين تخلّت عنا امهاتنا، لنرضع من حليب هذه التونسية الجميلة، بعد ان متنا عطشا... وجوعا... وقهرا... في الملاجئ، ودور الأيتام، واصلاحيات الاحداث العربية... ** نحن لا نطلب من احد ان يحبنا بمرسوم... او قرار... او... فرمان سلطاني... فالحبّ من عند الله... وتذوّق الشعر، والاحساس به، هما ايضا من عند الله... لا نطلب من اية سلطة، مهما كبرت او صغرت... ان تكتب لنا رسالة غرام... ** يا أهل القيروان: شكرا لأنكم تحبون الشعر... وتحبون الشعراء... ولن يتهمكم احد بشرائنا، او رشوتنا، او إغراقنا بالذهب او بالنفط... فلا انتم تملكون نفطا، ولا نحن لدينا هواية جمع غالونات البنزين.. يكفينا منكم ان تهدونا شجرة... او وردة... او بنفسجة او حبة زيتون... او عنقود عنب... او مقعدا خشبيا في حديقة... فنحن عشاق دراويش، لا يطلبون من حبيبتهم سوى خصلة من شعرها... او خيط من قميصها... او قبلة على الماشي، او على القاعد... لا فرق... هذه هي طموحاتنا العاطفية والشعرية.. واذا وجدتم ان حبّنا يثير من حولكم الفضائح، فلا تقنطوا من رحمة الحب، لأن كل عاشق كبير... (مفضوح يا ولدي مفضوح!..).