في كل مكان حلّ فيه الفيلم الامريكي «آلام المسيح» لمخرجه ميل غيبسون أثار ردود فعل قوية، أغلبها لا علاقة له بالفن السينمائي وتذوقه ونقده، وإنما هي ردود ذات صبغة ثقافية ودينية واجتماعية. بل إن هذا الفيلم الجديد الذي صدر هذه السنة ووزّع في شتى أنحاء العالم سبقت توزيعه حملات صاخبة في أمريكا من قبل المنظمات اليهودية التي نددت به وبمخرجه وطالبت بمنعه، على خلفية أنه ضد السامية ويذكّر الناس بجريمة قتل المسيح من قبل البعض من أهله اليهود الذين لم يعترفوا بنبوته ورسالته. أما في العالم العربي الاسلامي فلم يخل استقبال هذا الفيلم من ردود فعل قوية أيضا، لكن من طبيعة مختلفة، دارت حول تحليل أو تحريم تجسيد الانبياء والرسل في السينما، والطريف، إن كان في الامر طرافة، أن الجهات الدينية الشيعية لا ترى مانعا من تجسيد الانبياء والرسل والصحابة والاولياء، إذا تم التجسيد بكرامة ولم ينتهك قداستهم ولم يلوّث صورتهم... في المقابل فإن الفقه السنّي السائد يحرّم التجسيد ولا يجيزه مهما كان شكله وغايته، فمنع الفيلم في البحرين مثلا، وفي مصر وقع تغيير طفيف في عنوانه ليصبح «آلام السيد المسيح» وقد شهد إقبالا كبيرا من قبل المشاهدين، مثلما هو شأنه في كل بلاد عرض فيها. شاهدت هذا الفيلم الذي تبدأ أحداثه العنيفة بخيانة يهوذا الاسخريوطي للمسيح ووشايته لمجمع الاحبار، الذي منحه صرّة من النقود لمكافأته، وهي مكافأة لم ينعم بها يهوذا، وإنما تحوّلت بين يديه الى لعنة، بعدما شاهد الجولات الاولى من التعذيب الفظيع للمسيح حين قبضوا عليه وسط حوارييه وتلاميذه وشرعوا في التنكيل به بكل همجية وقسوة... همجية وقسوة لم يخل منهما مشهد من مشاهد الفيلم الذي يستغرق من الوقت أكثر من ساعتين من العذاب الدموي. تعرّض يهوذا، مثل كل الخونة، لعذاب الضمير وانتهى به الحال الى شنق نفسه، متدليا من غصن شجرة وتحت قدميه جثة حمار ميت متعفّن، مفتوح الفم، بارز الاسنان، وكأنه في موته الحيواني يسخر بشماتة من موت انسان خائن يقتل نفسه. على نفس الوتيرة من مكابدة الآلام واستقبال العنف والتوحش، بصبر وثبات وإيمان، يمضي الفيلم في تصوير المسيح خلال أيامه الاخيرة قبل صلبه وحمله لصليبه الخشبي الضخم، وهو يصعد الجلجلة تجلده السياط وتمزق جسده الدامي، وصولا الى المشهد الاخير الذي يقع فيه دقّ المسامير في اليدين والرجلين وتعليق المسيح على صليبه الشاهق، وتسليمه الروح وهو يرغب في قطرة ماء يطفئ بها عطشه. كان صوت فيروز يرنّ في أذني وأنا أتابع مشاهد الفيلم... الطفل في المغارة وأمه مريم، وجهان يبكيان، يبكيان... وكانت مريم العذراء طيفا ودورا تتخلل الفيلم، من أوله الى آخره، وهي تتابع بلوعة الأم، مفجوعة محزونة، مهرجان تعذيب ابنها بشراسة وفتك. ليست هذه الكلمات قراءة في الفيلم، ولا هي تلخيص لاحداثه القليلة وقسوته الكثيرة، ولكنها على سبيل التأكيد أن هذا الفيلم جاء في وقته بالضبط، لتذكيرنا بالسيد المسيح عيسى عليه السلام، ابن الجليل، رسول المحبة والتسامح، الذي افتدى الناس بدمه وجسده، وتعرض لابشع أنواع التنكيل والتعذيب وأكثرها دموية وعسفا وقهرا، ليلتحق بمملكته التي ليست على هذه الارض، الارض التي أبقى فيها كلماته الخالدة التي لا تزول، والتي تنتصر للانسان وتحميه من الجور والظلم والعدوان، تحميه من نفسه ومن أخيه الانسان. كان فيلم آلام المسيح يحتج بطريقته ويستنكر ما يشهده العالم راهنا من فظائع وتقتيل جماعي وصلب متعاظم، يتعرض له العرب خصوصا، مسيحييهم ومسلميهم على حد سواء، في فلسطين وفي العراق وفي... ومع أن الاسلام له رواية أخرى عن السيد المسيح، عن ولادته وعن مغادرته الارض مرفوعا لا مصلوبا، رأفة بالمسيح وإجلالا لنبوته ورسالته حتى لا يتعرض لمهانة القتل على أيدي المجرمين، حين شبّه لصالبيه أنه هو ولم يكن هو... تظل للمسيح عليه السلام وتعاليمه السمحة مكانة كبرى في قلوب المسلمين وديانتهم. مازالت صرخة المسيح في إنجيل متى مدوية: «ويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون لانكم تبنون قبور الانبياء وتزيّنون مدافن الصدّيقين، وتقولون لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الانبياء، فأنتم تشهدون أنكم أبناء قتلة الانبياء، فاملأوا أنتم مكيال آبائكم، أيها الحيات أولاد الافاعي كيف تهربون من دينونة جهنم (...) يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين اليها كم مرة أردت ان أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا، لاني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب»... فأين المسيحيون من مسيحهم وسط كل هذا الدم المسفوح، أين المسيحية الامريكية السمحة غير المتصهينة؟! إن آلام المسيح تتفاقم بشكل لا يطاق.