تحت عنوان: "التصورات الديمقراطية الجديدة" أقيمت في مدينة حمامات التونسية ندوة دولية، شاركت فيها ثلة من المفكرين والباحثين والجامعيين التونسيين والأجانب. تظاهرة فكرية تأتي في خضم الأحداث التي تشهدها بعض الجامعات التونسية والاعتصامات المتواصلة أمام مقر المجلس التأسيسي. رئيس الوزراء الاسباني الأسبق فيليبي غونزالس الذي افتتح الندوة لم يخف قلقه من الصعوبات التي تعترض مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تمر بها تونس، فالأزمة التي تهدد كل ديمقراطية ناشئة هي قدرتها على تمثيل كل مكونات المجتمع وهذا ليس بالأمر السهل. كما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتطرق إلى التجربة التونسية بصفة مستقلة عن ما يجري في العالم اليوم. ولاسيما "أزمة الحكم" (crise de gouvernance) التي تمر بها عدة أنظمة منها الأنظمة الديمقراطية. فكاليفورنيا التي تعد من أغنى الولايات في الولاياتالمتحدة، لكنها تعاني رغم ذلك من مشاكل في إدارتها لميزانيتها، حيث تستثمر في إدارتها للسجون أكثر من استثمارها في التعليم. كما أن أوروبا نفسها تمر بأزمة مالية مردها إلى استخدام عملة واحدة (اليورو) في ظل اعتماد البلدان الأعضاء لسياسات جبائية مختلفة. اتصال الأوضاع التونسية بما يجري على الساحة الدولية كانت فكرة واردة في محاضرة الباحثة التركية نيلوفر غولو، التي تطرقت إلى التجربة العربية من خلال المنظور التركي. فتركيا استقلت بسياستها عن ما أسمته غولو ب"التبيعة الغربية" منذ سنة 2003 وذلك عندما اعترض البرلمان التركي على استعمال القوات الأمريكية لأراضيه في حربها ضد العراق. كما أن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي شهدت منذ سنة 2005 اضطرابا بعد أن بدا جليا أن أبواب الاتحاد باتت موصدة أمام العضوية التركية. كما تطرقت نيلوفر غولو إلى نقطة التحول في العلاقات التركية-الإسرائيلية بعد الهجوم الإسرائيلي على غزة عام 2008 والهجوم الذي شنته القوات الإسرائيلية على السفينة التركية في شهر أيار/مايو 2010. كلها نقاط تاريخية غيرت تدريجيا مجرى الدبلوماسية التركية لتتجه بها نحو العالم العربي الإسلامي الذي يشهد تطورات تاريخية تريد تركيا أن يكون لها فيها دور فاعل في إطار ما يسمى بالمنوال التركي الذي عرفه الباحث في علوم السياسة التركي كمال كريشي بأنه يقوم على ثلاثة مكونات أساسية وهي سياسة خارجية "عادلة" واقتصاد منفتح (فنسبة النمو التركي من أعلى النسب في العالم) وديمقراطية في تطور مستمر. أما بالنسبة للباحث والسياسي الفرنسي من الأصول الجزائرية سامي ناير، فرغم تسليمه كذلك بالصعوبات التي تعترض الثورة التونسية ولا سيما تلك التي تتهددها بالرجعية، فإنه يعتبرها مع ذلك أهم ما جد في العالم العربي بأسره منذ الحرب العالمية الثانية. حيث كان لهذه الثورة الأثر المباشر في كسر ما أسماه ب"القفل الاستراتيجي والديموغرافي الأول في المنطقة" متمثلا في مصر التي اندلعت فيها الثورة قبل أن تتسع رقعة الاحتجاجات الثورية في أرجاء عديدة من العالم العربي. كما تطرق إلى الأسباب السياسية التي عصفت بهذه الأنظمة البوليسية، حيث السيادة تكمن في الدولة لا في الشعب. فذكر أن سياسات هذه الدول خلقت حواجز حالت دون تطور أنظمتها السياسية وهكذا وجدت نفسها أمام تناقضات داخلية كانت السبب الرئيس في انهيارها. تناقض تبلور كذلك في التباعد بين أنظمة مغلقة ومجتمعات تعيش انفتاح عصر العولمة. لكن النظرة الخارجية للأوضاع التونسية لم تقص تعاطيا تاريخيا للثورة التونسية. وكان ذلك محل اهتمام المفكر التونسي محمد حداد الذي عقد مقاربة تاريخية بين دستور1861 (الذي كان أول دستور يسن في العالم العربي والإسلامي) وبين مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تشهدها تونس في المرحلة الحالية. فدستور 1861 لم يتم العمل به فعليا رغم طابعه الحداثي والمتقدم (وهنا مقارنة ببيان السابع من نوفمبر الذي تعهد بعهد ديمقراطي وبالقطع مع الماضي) كما ألغته ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 (كما أنهت ثورة 14 يناير نظام السابع من نوفمبر). كما تطرق الباحث التونسي إلى الأسباب التي منعت من اكتمال الحركة الإصلاحية في البلاد التونسية آنذاك والتي يرجعها إلى الفصل بين الدعوة إلى الإصلاح السياسي والدعوة إلى الإصلاح الإجتماعي. فعدم اقتران الدعوتين وتكاملهما في المطالبة بحركة إصلاحية شاملة استعملت سياسيا من طرف الباي ليوقع بين التيارين العداوة ويضعف الحركة الإصلاحية برمتها. كما ختم مداخلته بالتذكير بأهمية دور النخب السياسية اليوم الذي لا يكمن أبدا في اجتثاث المجتمع من معتقداته. فاحتقار الواعز الديني لدى الشعب البسيط خطأ وقعت فيه الكثير من النخب التونسية اليوم على حسب قوله، قبل أن يضيف: "لكن عندما يحتقر هذا الواعز الديني في بلد ديمقراطي فإن الثمن يدفع غاليا، وقد دفعناه." وبالفعل فإن الوضع الميداني لم يغب عن اهتمامات الندوة. فقد سجلت مداخلات لعدد من المدرسين الجامعيين الذين قدموا من جامعة منوبة في ضاحية العاصمة خصيصا للإدلاء بشهاداتهم حول ما تشهده جامعتهم. شهادات تناولت حجز عميد الكلية من قبل أطراف تنتمي إلى الفكر السلفي الذين رفضوا متابعة سير الدروس قبل الاستجابة إلى مطالبهم المتمثلة في قبول الطالبات المتنقبات ومنع الاختلاط بين الجنسين في الجامعة. الثورة التونسية في إطارها الوطني الضيق أو العربي بل الدولي الموسع كانت إذن محل دراسات ومقاربات وآراء عُرضت على أصعدة مختلفة في هذه الندوة الفكرية التي استمرت فعالياتها على مدى ثلاثة أيام. كان تنظيمها تحت إشراف الأكاديمية اللاتينية التي يرأسها الأستاذ الجامعي والكاتب البرازيلي كانديدو مانداس والمعهد الدولي لتونس وهي مؤسسة أدبية أنشأتها الكاتبة التونسية هالة الباجي.