“مازال الربيع العربي في بداياته، وسيتحسن بمرور الوقت. وهو لن يقود فقط إلى تغيير الأنظمة، بل كذلك إلى تغيير رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين. “ العالم العربي محظوظ أن بدأ ربيعه في تونس، ذلك المجتمع المتجانس عرقيا وطائفيا الذي يتميز بمستوياته التعليمية العالية ومشاعره المدنية وحسه السياسي. لقد قدمت الثورة التونسية أنموذجا جميلا أحيا الآمال في العالم العربي التي كانت مدفونة لوقت طويل تحت أكوام من الاضطهاد واليأس والتشاؤم. عندما زرت تونس في الذكرى الأولى لثورتها أثار إعجابي أن أرى مدى قدرة القادة الجدد على تجاوز مرارة الماضي والعبور سريعا إلى المستقبل. وبقدر ما ألهمت تونس الجماهير العربية للثورة على الطغاة والمستبدين، فهي اليوم تعطيهم درسا آخر في كيفية إقامة بديل ديمقراطي متوازن. فبعد انتخابه كرئيس مؤقت لبلاده مباشرة، وقف المنصف المرزوقي، الذي اشتهر في الشارع العربي بأنه المدافع الذي لا يلين عن الحريات وحقوق الإنسان والعدو اللدود لنظام ابن علي، يعرض رؤية واضحة متوازنة لمستقبل تونس. كما تحدث حمادي الجبالي، الذي قضى ستة عشر عاما من عمره في السجن، عشرة منها في حبس انفرادي، والذي تم تكليفه مؤخرا بمهمة تشكيل وزارة جديدة، عن تعزيز قيم العدل والمصالحة الوطنية وعن كيفية بناء اقتصاد قادر على تحقيق الاستقرار لمواطني تونس. وقد بدا علي العُرَيِّض، وزير الداخلية الجديد، الذي قضى أربعة عشر عاما في السجن، عشرة منها في حبس انفرادي، متفائلا، مفضلا التحدث عن الحاضر وليس الماضي فيما عدا عندما سئل مرارا عن تجربته في السجن. وقد كانت إجابته، بدون توجع أو مرارة، منصبة على الدروس المستفادة. إن قادة تونس الجدد يدركون أن الشعب قد انتخبهم لأنهم يسعون للرحيل عن الماضي، عن النظام القديم وشخصياته وسياسته. إن الثورة لم تكن موجهة فقط ضد الرئيس ومساعديه، بل ضد النخبة السياسية بأكملها، من هم في النظام وكذلك من لعبوا دور المعارضة في نطاق الهامش المسموح به. إن أكبر تحد يواجه القادة الجدد هو إدارة التحول الديمقراطي بذكاء؛ والحفاظ على درجة عالية من الشفافية؛ وإنشاء عقد سياسي يتوافق عليه مختلف قطاعات وتوجهات المجتمع. لم يحدث من قبل أن أتيحت للعرب فرصة الارتباط في حوار يهدف إلى التوصل إلى إجماع حول قواعد اللعبة السياسية. وقد بدأ هذا الحوار الآن، ومن المتوقع أن يستمر على مدى السنوات القادمة عبر العالم العربي. لقد أعرب بعض الناس عن قلقهم أن الدور المهم الذي لعبه الشباب في إطلاق الثورة لم تتم ترجمته إلى مشاركة كافية في العملية السياسية. ويلاحظ هؤلاء أن الأحزاب والقوى السياسية قد اختارت ترشيح شخصياتها البارزة في الانتخابات. لقد كان الأحرى إدخال عدد أكبر من الشباب في العملية السياسية. دعنا نعترف أن النخب السياسية والفكرية والإعلامية قد اتفقت على أن تلعب طبقا للقواعد التي وضعتها الأنظمة الديكتاتورية. ولكن الشباب قد جاءوا بدون هذه النظام وأدخلوا قواعد جديدة حيرت الأنظمة والنخب. لقد فاجأ الشباب الجميع. فلولا هذه المبادرة الإبداعية لكنا مازلنا ندور حول نفس سيناريوهات التغييرات الجزئية اليائسة. لقد كان الشباب يتطلعون إلى المستقبل في الوقت الذي كنا نناضل فيه من أجل التكيف مع ظروف المعيشة مع الماضي. إن مشاركتهم في النشاط السياسي المستقبلي ضروري لمواصلة البحث عن حلول مبتكرة. إننا بحاجة إلى خيال سياسي جديد. ومن كانوا جزءا من المشكلة لا يمكن أن يكونوا جزءا من الحل. والثورات العربية الأخرى تختلف في الثمن الذي تدفعه وفي السبل التي تسلكها. ولكنها تتشابه في الروح وتشترك في نفس المنطق. فكلها تسعى إلى الانفصال عن الماضي؛ وتحاول تجنب العنف؛ وأدهشت النخب السياسية؛ وتدعو إلى وحدة وطنية ودولة مدنية؛ وأشعلها كلها الشباب؛ وفوق كل ذلك، فإن الثورات العربية تتعلم وتستفيد من تجارب متنوعة متعددة. وقد تحولت وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية إلى ورش تدريب مستمرة يشارك فيها الشعب بأكمله. إن هذه التجربة ما كانت لتكون ممكنة لولا ثورة الاتصالات والإنترنت. مازال الربيع العربي في بداياته، وسيتحسن بمرور الوقت. وهو لن يقود فقط إلى تغيير الأنظمة بل كذلك إلى تغيير رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين. كما أنه سيخلق وعيا عاما جديدا، وسيخلصنا من عقدة الدونية وسيطلق العنان لخيال سياسي واجتماعي يتمحور حول الشعب وآماله، وليس حول السلطة والمصالح الشخصية. ربما يكمن التهديد المباشر للتحول الديمقراطي في التحدي الاقتصادي. فاحتياطيات تونس من النقد الأجنبي، بحسب بنكها المركزي، تغطي بالكاد 113 يوما من الواردات. والوضع ليس أفضل في مصر. وإذا استمر الحال على ماهو عليه، فإن الحكومة قد تعجز في غضون ثلاثة أشهر عن دفع رواتب ستة ملايين موظف في القطاع العام. والمشكلة التي تواجه دول الربيع العربي هي أن الثورات في جانب والموارد في جانب آخر. والمساعدات العربية لمصر لم تتجاوز بليون دولار. وإذا أضفنا إلى كل ذلك تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيرها على هذه الدول، فإن التحدي الاقتصادي يمكن أن يفسد الانتقال إلى الديمقراطية. كل هذا واقع، وربما يزيد في تعقده وكثافته في الأيام المقبلة. ومع ذلك فإن هذه القلاقل يجب وضعها في سياقها الطبيعي. فالتحول الديمقراطي ليس عملية سهلة. ففي الغرب استغرق الأمر قرونا من الصراع والنزاعات الفكرية والدينية والطبقية – علاوة على عدد من الثورات الدموية والحروب الأهلية – قبل أن يتم التوصل إلى توازن يقود إلى وجود واقع سياسي مستقر. وتغيير الوضع العربي لن يكلف كثيرا، ولكنه لن يكون سريعا. إن المؤشرات الأولية تشير إلى زيادة وعي الجماهير، وهو الذي يأتي عندما يتم إثارة المشاعر وإلهاب الصراعات. والناس يكونون أكثر مصداقية عندما يتعلق الأمر بتحديد الاتجاه الصحيح، واليوم هم قادرون على مراقبة مسار الانتقال وقادرون على التعبير عن آرائهم وقتما يشعرون بحدوث انحراف عن المسار الصحيح.