سأتحدث اليوم عن ماسات أطفال الأحياء الشعبية بالقصرين الذين توفوا بسبب التسمم الناتج عن تناولهم - نبتة الفطر أو- الفقاع -أو من يعرفونه بالفرنسية – شانبينيون- . هذه النبتة تنبت عادة في الأرض الخصبة خاصة على اثر تهاطل الأمطار. وسأحكي عن الأعشاب التي تعودنا قطفها واكلها ونحن أطفال نلهو و نلعب في الواحة والغابات وإذا بها تصبح مسمومة تقتل البراعم وتزهق أرواحهم وكأنها أصبحت حية تسعى أو أثعبان أو أفعى أو عقرب تلسع وتبث سمومها في أجساد ناعمة مازالت طرية وبريئة . هؤلاء الصبية ذنبهم الوحيد هو عبث الطفولة واللعب في الغابة والبستان أو الحقل واقتطاف هذه العشبة أي الفطر التي أصبحت ملعونة كشجرة الزقوم في القرآن الكريم . فمن منا أبناء الأحياء الشعبية أبناء الكادحين وأبناء الفلاحين لم يتعود في الماضي القريب على أكل بعض الأعشاب كتقليد ورثناه عن الآباء والأجداد والأمهات؟. فكلنا يتذكر كيف علمته عائلته ثقافة التعاطي مع الأعشاب سواء لأكلها عند الضرورة لتسكين الجوع أو للتداوي بها من بعض الأمراض الجلدية والبدنية .فلطالما أفادونا النسوة و الشيوخ في القرية أو الريف أو المدينة بتوجيهاتهم ونصائحهم الثمينة كي نتعرف على اسم النبتة و فائدتها سواء في الأكل أو في الطب الشعبي . فهذه عشبة- التالمة-التي كنا نأكلها ونحن صغار وبدون أن نغسلها وكلما أفرطنا في الأكل منها إلا وظهر على شفاهنا اللون الأحمر الممزوج بالبني وهو دليل قاطع على أننا أكلنا منها الكثير , وهذه عشبة- قرين جدي – التي تنبت في السواقي نركض ونتسابق لقطفها واكلها وهذا –التفاف – أيضا يسيل لعابنا عندما يكون طريا اخضر ناعما فكنا نتلهف للأكل منه وهذا- القطف – مازال عادة إلى الآن في جهتنا بقفصه حيث يكون وجبة للكبار يتناولونه مع الكسكسى ويعدون له- مرق خاص – كما هو الشأن بالنسبة- للخبيز ة- التي يتناولها الكبار في وجبة كاملة وتأكل بالخبز كالمرق . ولا ننسى عشبة- الشيح – أو حشيشة بالقاسم بن سالم – أو- الزعتر- أو-الإكليل- وهي كلها مطلوبة في الطب الشعبي. وباختصار كل في جهته له علم بهذه النبتة أو تلك ومدى نفعها أو ضررها ومدى صلاحيتها في الأكل أو التداوي . هذا قليل من كثير كنا قد تعودنا عليه ونحن أطفال ولم تكن هذه الأعشاب في يوم ما عدوا لنا بل كانت تسكن آلامنا , كانت تخفف عنا وطأة الجوع الخاوي لبطوننا عندما نفتقد الغذاء ونحن بعيدين عن القرية في الحقول أو عند سفح الجبل نساعد أهلنا على مشاق الحياة في خدمة الأرض أو تربية الماشية . لم تكن الأعشاب مصدر خطر على حياتنا بل كنا نجد فيها لذة في الأكل وشهية في الطعام . لم تكن هذه النباتات قاتلة للأطفال بل كانت مصدر حياة ونماء وشفاء . والسؤال الذي تأخر قصدا هو لماذا تحولت هذه الاعشاب من مصدر حياة إلى مصدر موت ومصائب ؟ ذلك هو جوهر موضوعنا في هذه المقالة . في ذلك الزمن الذي كنت اذكر لم تكن البيئة ملوثة ولم تجري فوق ترابها التجارب تلو التجارب على الأسلحة النووية أو الجرثومية . لم تكن البيئة مهددة كما هي مهددة اليوم بكل أنواع الأسلحة الفتاكة والغازات السامة التي لم تسلم منها النباتات موضوع حديثنا ولا حتى الحيوانات ولا الإنسان .فربما يستغرب بعض القراء فيقولون : هل أن التجارب النووية التي تجرى في المحيط الأطلسي والحروب التي دارت بعيدا عنا في منطقة الخليج يصل ضررها إلينا نحن في تونس ؟ نعم ولم لا فهي تنتقل عبر الرياح والأمطار والجو و أشياء أخرى . فالإشعاعات النووية قادرة على أن تغزو الفضاءات البعيدة وليس انفجار تشرنوبيل بروسيا علينا ببعيد . وبماذا نفسر إذا ظاهرة الانحباس الحراري ؟ وبماذا نفسر أيضا انخفاض طبقة الأوزون في الجو ؟ وبماذا نفسر كذلك التقلب المفاجئ والمستمر في المناخ في هذه السنوات الأخيرة والتي شهدت تطورا هائلا في استخراج الطاقة النووية واستعمالها لأغراض غير سلمية؟ وهاهي أمريكا القوة العظمى في عالم اليوم لا تريد أن تنظم لنادي البيئة العالمي لأنه سيلزمها بتطبيق المعاهدات الدولية التي تحرم على الأقل على مستوى النص القانوني التفجيرات النووية واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا كاليورانيوم المنضب والتي تحمل رؤوسا ومواد جرثومية . هذه الأسلحة التي أبادت الآلاف من أطفال وأبناء أهلنا في العراق في العدوان الأمريكي المتكرر وشوهت خلقتهم وجعلتهم عرضة لأبشع أنواع السرطانات كما يعاني منها شعبنا الفلسطيني الذي هو الآخر بات عرضة لتجارب العدو الصهيوني باستعماله لهذه الأسلحة الخطيرة . وإذا امتنعت الامبريالية الأمريكية عن الالتزام بسلامة البيئة ذلك لان إستراتيجيتها في العالم مبنية على الصناعات العسكرية المتطورة من اجل السيطرة والتحكم في مصير الشعوب ونهب خيراتها . هذا قليل من كثير أردنا أن نقف عليه وربما نرجع للموضوع مرة أخرى آملين ألا تتكرر مأساة أطفال القصرين من أبناء شعبنا في تونسنا العربية العزيزة على قلوبنا . وقبل أن نختم مقالنا نشير إلى أنه بات لزاما على الدولة أكثر من أي وقت مضى العناية بالبيئة كممارسة فعلية وليس كشعار ترفعه في المناسبات . ومن ضمن ما يجب أن تتكفل به الدولة هو حماية الهواء والتربة من التلوث بمياه المعامل الكيميائية والغازات السامة فعلى سبيل المثال معمل السليلوز بالقصرين هو مصر تلوث للهواء والتربة . كما لا يفوتنا ونحن بصدد التعرض لنفايات المعامل الكيميائية أن لا نذكر المعمل الكيميائي بمعتمديه المظيلة من ولاية قفصه الذي أصبح ضرره غير خاف على احد إذ أصاب الشجر والنبات والحيوان والإنسان . فمتى ستفكر الدولة في تحويله بعيدا عن مناطق العمران ؟ فنحن على يقين لو بعثت الدولة بلجان مختصة و ألزمتها بالقيام بدراسة ميدانية محايدة فيما يسببه هذا المعمل الكيميائي من أضرار بيئية وصحية خطيرة على التربة والهواء والماء والحيوان والإنسان سيتبين لها كم هو متأكد جدا تحويل هذا المعمل . لا نريد شارعا في كل مدينة وقرية يسمى شارع البيئة بل نريد عملا بيئيا فعليا يعنى بسلامة بيئتنا أرضا وجوا وبحرا حتى لا نتسمم بهواء ملوث أو نبتة مريضة أو بخضر وغلال تسقى بماء مستعمل في تصريف قنوات التطهير