قبل شهر تقريباً من تفجُّر باكورة الثورات العربية في تونس (17/12/2010م)، أجريت استطلاعاً على عينة من المواطنين في مصر والمغرب عن حالتهم النفسية في ظل الأوضاع القائمة، وقد أفادت النتيجة بانحدار تلك الحالة إلى ما تحت الصفر، ولعل ما فعله الشاب «محمد البوعزيزي» - يرحمه الله - وتبعه في ذلك العشرات في مصر وغيرها؛ يعبر تعبيراً دقيقاً ومجسداً عن تلك الحالة البائسة. لكن بعد تفجُّر الثورات الناجحة في تونس ومصر واليمن وليبيا ثم سورية، قفزت نتائج ذلك الاستطلاع إلى عنان السماء، فقد جرت الدماء في العروق بعد أن جمَّدها الطغيان، وأصبح المواطن العربي منفتحاً على الحياة بكل أمل، بعد أن كان لا يرى أن للحياة قيمة، وباتت الثورات أشبه بكاسحة سريعة الدوران، أزاحت في وقت قياسي كل ركام سنوات الضيم ومعها أنظمة الجور والاحتكار والطغيان، وباتت تلك الثورات أشبه بمطهِّر شديد المفعول قام بتنقية أجواء الحياة من كل المخلفات السامة التي صنعتها تلك الأنظمة على مدى عقود من الزمان، وخلَّفت وراءها ملايين الضحايا. في بلادي «مصر».. كره المواطن «السياسة» والحديث فيها، بعد أن أمَّمها الحزب الواحد والرجل الواحد، ولم يعد يطيق سماع كلمة «اقتصاد» بعد أن أطبق الضنك والفقر على رقابه، وبات يعاني أزمة في كل شيء على يد شلة الاحتكار، وبات يشعر بالحزن والخزي عندما يسمع كلمة «القانون» أو «سيادته» بعد أن داست عليه الأغلبية المزيَّفة، وباتت كلمات «العدل» و«المساواة» و«الإنصاف» غريبة على الناس، وصارت أيام الانتخابات أيام حداد عام يلزم الناس فيها بيوتهم أو مشاغلهم بعد أن كانت نتائجها محددة سلفاً على مزاج الرجل وابنه وزوجته عبر صبيانه.. أقفرت الحياة تماماً، وأظلمت ظلاماً مطْبِقاً، حتى حدث الطوفان الذي اكتسح كل ذلك الركام، وألقى به بين عشية وضحاها خلف قضبان السجون، وأشرقت سماء البلاد بأمل جديد، وتجدَّد هواء الحرية، وبات عقل وقلب وكيان المواطن يتوق لمعرفة كل شيء في السياسة والاقتصاد والقانون والأمن، بل والقانون الدولي.. لقد كان المواطن بعد «25 يناير» أشبه بإسفنجة وُضعت في الشمس الحارقة طويلاً، وباتت على استعداد لتشرب أي كمية من المياه؛ مياه المعرفة بكل شيء، وخلال عام واحد تكوَّنت لدى المواطن المصري ثروة هائلة من الثقافة المتنوعة تفوق ما تم تكوينه خلال عشرات السنين، لقد أسهمت أجواء الحرية والحالة النفسية العالية لدى المواطن في تأهيل الناس للبحث والاستماع لكل القضايا بشغف؛ فبات المواطن يسأل ويعرف ويدرك ما يدور في الساحة السياسية، بل ويحفظ عدد الأحزاب السياسية، ويدرك التفريق بينها جيداً، وبات يعلم أهمية «الدستور»، و«الإعلان الدستوري»، وإجراءات الانتخابات والمتنافسين فيها، وتابع النقاشات الساخنة عن الدستور أولاً أم انتخابات البرلمان، والفترة الانتقالية وعدد أيامها وماذا بعدها، وبات يراقب عجلة الاقتصاد والأزمة التي تعيشها البلاد.. وتشكَّل لديه الوعي الكفيل بإحجامه عن المشاركة في الإضراب العام أو العصيان؛ لأنه يمثِّل الخراب بعينه الذي يمكن أن يُسقط البلاد، بل صار يراقب معدلات البورصة وحالتها كمرآة لحالة الاقتصاد، بعد أن كان جزء كبير من مثقفيه لا يعلمون شيئاً عن تلك البورصة. وتابع الناس بشغف بالغ تلك المناقشات والسجالات القانونية عن المحاكمات، وما يخصها من قوانين وقواعد قانونية تحدد صلاحيات القضاء وحق المتهم والمجني عليه، بل اطلع الشعب على ألاعيب المحاماة لمحاولة تبرئة المتهمين، وتابع ألاعيب بقايا النظام السابق، وكيف حولت كبار المجرمين إلى نزلاء فنادق خمس نجوم.. وتابع النقاشات الدائرة والساخنة عن الفصل بين السلطات، وعدم جواز التدخل فيها. كل تلك القضايا تابعها المواطن عبر نقاشات وسجالات وأخبار من خلال كبار الخبراء والمتخصصين، فكان أشبه بدورة مكثفة لمدة عام كامل لتثقيف الشعب بكل ضروب الحياة، كوَّن خلالها ثروة كبرى من «الثقافة» الراقية.. «ثقافة» الثورة. وكل ذلك «كوم»، وبثُّ جلسات مجلس الشعب الجديد على الهواء «كوم» آخر، فقد بات ذلك المجلس الفريد في تاريخ مصر مدرسة يترقبها المواطن المصري أيام الأحد والإثنين والثلاثاء من كل أسبوع - موعد انعقاد الجلسات - ليتابع من خلالها كل قضايا مصر بكل شفافية، وعبر بيانات وخبراء وإحصاءات يلقيها نواب، ويرد عليها وزراء، وهي لا شك تشكِّل حصيلة أخرى ومهمة من الثقافة المتنوعة؛ تسهم في تشكيل فكر وعقلية وثقافة المواطن تشيكلاً صحيحاً وشفافاً، بعد أن كان ما يدور في مجلس الشعب أشبه بالأسرار العسكرية.. لقد باتت تلك الجلسات أشبه بورشة تدريب للنواب لكي يضبطوا مشاركاتهم التي يراقبها الشعب وللشعب الذي يكتسب كماً نوعياً من الثقافة لا شك تزيد من فاعليته، وتنمي قدراته على المشاركة في الشأن الوطني العام، بل بات المواطن - من خلال العدد البسيط من جلسات المجلس - يعلم ثقافة وآليات العمل داخل المجلس؛ من حيث اللائحة، وطلبات الإحاطة، والأسئلة، والاستجوابات، بل وطريقة أخذ الكلمة، وما يجب أن يلتزم به الوزراء عند الحديث في المجلس، وما ينبغي على النواب فعله.. كل تلك ثقافة نوعية مهمة تنمي وعي المواطن، وتعيد صياغته بصورة جيدة.. ومن هنا، فلا أعتقد أن د.سعد الكتاتني، رئيس المجلس، الذي يقدم صورة مهمة للمتابعين في القدرة على ضبط النفس وضبط النواب، خاصة عندما تعلو صيحاتهم مع كامل الاحترام لهم، أقول: لا أعتقد أن د. الكتاتني وغالبية النواب سيقدمون على منع بث تلك الجلسات التي صارت من لوازم حياة الشعب المصري الضرورية، فقد أصبح مجلس الشعب ببث جلساته على الهواء «ميدان تحرير» جديداً، يلتف فيه الناس حول المجلس عبر الشاشات؛ ليتابعوا ويراقبوا ويعلموا ويتعلموا مما يجري من نقاش، ويدركوا على الهواء مباشرة كيفية تفاعل نوابهم مع قضاياهم الملحة. وبعد.. فإن هذا الكم الكيفي والمتنوع من الثقافات الذي تدفق مع الثورات سيفرز بعد سنوات قليلة قاعدة عريضة من الكفاءات في كل المجالات بعد أن كادت الساحة تنضب، وسيتولد عنه ثقافات جديدة وحية ستُحدث في المجتمع نقلات وقفزات كبرى نحو الأمام بإذن الله. -------------------------------------------------------- (*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية