إن صمود حماة عروبة القدس وصبر أهلنا في غزة ونداءات فتح المعابر ورفع الحصار من موريتانيا إلى إندونيسيا لتجعل الأمل قائما. أيها الشاهدون على ظلم المحتل وظلم بني جلدتنا.. أيها الشاهدون على عجزنا.. ما دمتم على حق وأصحاب حق فلا تلتفتوا إلى الوراء وأقيموا في المستقبل لأنه وقف عليكم وملككم وحقكم الشرعي. الفيلسوف الفرنسي ألان فنكيلكروت «Alain Finkielkraut» غير المحبوب في البلاد العربية بسبب مواقفه السياسية الموالية للكيان الصهيوني له كتاب عنوانه «هزيمة الفكر» يختتمه بفقرة مطلعها «إن البربرية قد انتهت إلى الانتصار على الثقافة. وفي ظلال هذا الاسم الكبير ينمو في الوقت نفسه اللاتسامح والطفولية». وهو يتتبع في كتابه مسار فكرة الكونية، والخصوصية في الثقافة الغربية، ويشير إلى ما انتهت عليه تلك الثقافة من فقدان كل شيء لمعناه وإفراغ التعابير الثقافية من مضامينها. فهزيمة الفكر بعد انفصام العقل الغربي إلى شطرين، شطر الثقافة المكتوبة والملفوظة وشطر تقبل الصورة، غلب الصورة والمشهد على الكلمة والعبارة، «لقد انتصر الكليب على النقاش وصار المجتمع مراهقا» وطفوليا. إنها أزمة الإنسانية الغربية وقد طالت القيم الأخلاقية والدين والفنّ والعلم والثقافة التي أصابتها الشيخوخة وحلت الضحالة والرداءة محل الحكمة والمعنى. فهل أن الوضعية عندنا مختلفة عن هذا المشهد الانحطاطي؟ وهل لدينا إرهاصات صحوة بكر تبشر بعودة المعنى لوجودنا وحياتنا، وتعيد الأمل بانتصار الإنسان والإيمان لا هزيمة الفكر وانكسار الوجدان؟ إن الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) لا يعود لها الفضل فقط في إطلاق حرية التعبير بقدر ما يعود لها الفضل في الكشف عن مساحات يتم فيها التعبير خارج مجال رقابة الأجهزة وخارج سيادة الدول. فقد يحصل أن يتحدث المثقفون في أركان المقاهي بصوت خافت عن الفكر وعن السياسة أو يتجادل عموم الناس في قطار أو في حافلة أو في حديقة أو ساحة الحي عن كرة القدم بلا تهيب، ولكن يصعب أن يكون تلفزيون بلدك ونواديها، وحتى مقرات أحزابها فضاءات للنقاش الحر عن إشكالية السلطة وعن أزمة الثقافة وقضية القيم والمصير المشترك. أجل إنك تسمع كلمات العولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان وحوار الأديان والثقافات والتسامح وتحالف الحضارات على كل الألسنة، ولكنها ألفاظ تشبه العلب الفارغة، والقوارير البلاستيكية الجوفاء الملقاة في كل مكان، لا تساوي شيئا غير إمكان تلويث البنية، ولا تغني التحضر بقدر ما تدل على اللاتمدن، ولا تشير إلى امتلاء العقول بل تفضح شهوات البطون. إن مثقفي مصر على سبيل المثال مدينون في حفظ شرفهم وكرامتهم إلى رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني لا إلى تمسكهم بأصالة لم تعد تعني شيئا، أو تطلعهم لحداثة كانت سبب نكبة أمتهم ونكستها، وحتى حينما جربها محمد علي أرسل جيشه لإجهاض نهضة الحجاز، وحينما جددها عبدالناصر جردها لملء السجون بالإخوان فكانت اليمنى تبني واليسرى تهدم «كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا». فالتهديد اللفظي لم تكن تسنده قوة العقيدة والعلم والاقتصاد والسلاح. وللتاريخ فإن دعاة التطبيع في حقيقتهم دعاة إضعاف مصر والأمة العربية، أما أنصار عدم التطبيع فهم دعاة ريادة مصر ووحدة الأمة العربية وقد كانت ثورة يوليو تجسيدا لذلك الحلم قبل أن تذهب بريحها الأخطاء والمحاور. وأما مثقفو المغرب العربي فمدينون في تميزهم، وضعفهم معا، لتقليد طائفة منهم للمشارقة وتقليد طائفة منهم للأوروبيين، قبل أن ترتفع الأصوات بأن المشرق مشرق اللامعقول والطوباوية، والمغرب مغرب العقل والواقعية، حتى إذا ظهرت مراكز جديدة في الغرب وفي الخليج العربي اجتذبت إليها الأقلام والنخب العربية والإسلامية، ولولاها لجفت الأقلام وماتت الأفكار. ولعل الثقافة العربية بما راكمت منذ حركة الإصلاح إلى حركة المقاومة إنما كانت تتهيأ لهكذا زمن ولمثلها لحظة.. زمن العولمة المفروضة ولحظة الصحوة المرتجاة. إن وعيا جديدا بصدد التشكل وعي ما بعد العلمانية وما بعد الطائفية وعي النهضة المنشودة. وإن فرزاً فعليا ومخاضا حقيقيا أتت تباشيره مع مطلع القرن الجديد.. فجر دورة حضارية جديدة. إنه ليس أصعب على النفس من سقوط الأوهام بعد أن كانت تعاش على أنها حقائق، وليس أصعب من ساعة الحقيقة لمن كان يسير مغمض العينين. ترتفع أصوات المطبعين ولكن التطبيع يراوح مكانه، بل يتراجع فجبهة الممانعة لا تزال قوية وكلما أوهنت تشكلت من جديد. سقطت أوهام المقلدين والطائفيين وحلت لحظة النقد الذاتي.. المقدمة الضرورة لإعادة البناء والشرط الأساسي لحوار الذات اليافعة مع ذاتها الجريحة المتعبة، ومع الآخر الشريك والمجاور والمهيمن والمحتل حتى إحلال سلام التحرير لا استسلام الحمير. يقينا إن بيننا وبين الغرب فجوة بين متقدم ومتأخر، إن لم يكن على مستوى القيم الأخلاقية فعلى مستوى الصناعة والتقنية والتنظيم السياسي، وهي فجوة آن الأوان أن تتحول إلى حافز للنهوض عوض أن تستقر في نفوسنا عقدة معيقة وقاتلة. أما التصنيف مشرق لاعقلاني حالم ومغرب عقلاني وواقعي فهو من أوهام المثقفين وإن علا كعبهم وذاع صيتهم، وكم نحن في حاجة إلى نص طعن فيه باسم العقل والعصر وهو سداد العقل ومهيمن على الزمن، وكم نحن في حاجة إلى سردية كبرى زمن نهاية السرديات الكبرى، فالنص والسردية عماد حضارتنا وقصتها. كم نحن في حاجة إلى حلم كبير زمن اغتيال الأحلام الكبرى، حلم يضعنا في المستقبل لا في عدم الماضي، وكم نحن في حاجة إلى عقل يفقه الواقع ويطوعه ويستشرفه. إن عبقرية هذه الأمة هي المستهدفة من التجويع والحصار لكنها ستنتصر على الجوع والقيد. وإن غداً لناظره قريب. تواصل اعتصام عمال نزل