أتذكرون ظهور أناس في تونس زمن ابن علي ادّعوا النبوّة أو ادّعى الإعلام يومئذ أنّهم فعلوا ذلك (راجعوا إن شئتم مقالا كتبته عنهم بتاريخ 18 نوفمبر 2003، نشرته تونس نيوز الغرّاء بعنوان "أهي جريمة "الأنبياء" أم جريمة "الأرباب"")!... ظهر "الأنبياء" يومئذ لأنّ الخواء الديني قد بلغ بالنّاس القاع حتّى نسوا أنّه لا نبيّ بعد محمّد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وظهروا لأنّ النّاس كانوا بحاجة فعلا إلى من يذكّرهم بربّهم ولو كان من يذكّرهم مدّعيَ نبوّة، وبرزوا لأنّ "الأرباب" (الحاكم، أو ما يسمّى يومها بصانع التغيير المبارك) قد أكثروا في الأرض الفساد حتّى أحسّ النّاس بحاجتهم إلى نبيّ ينقذهم ممّا هم فيه من ضلال وفّرته فرحة الحياة النوفمبريّة!... حوكم "الأنبياء" وقُلِب "الأرباب" ففرّوا من البلاد صاغرين، وانتصب برزخٌ جليّ الوضوح بين ما كان قبل 14 جانفي 2011 وما بعده... ثمّ كان المسار الذي عُلم!... حكومة، فحكومة، فانتخابات شفّافة ديمقراطيّة فحكومة شرعيّة!... وكنّا نحسب أنّ الطريق بذلك قد عبّدت كي ينكبّ مَن اختارهم الشعب على إنجاز مهامّهم التي كلّفهم بها الشعب، وكنت أرى الكفاءات متوفّرة في المراكز الثلاث (الرّئاسة، المجلس، الحكومة)، وكنت ألمس في الجميع الصدق والإخلاص والحرص على حسن الأداء، ورجوت أن نرى بلدنا بخير حال وأن نجني بسواعد أهلنا فيها خير الثمار الاقتصاديّة والتشريعيّة والأخلاقيّة استنادا إلى ارتفاع الذوق الذي به وقع اختيار نواب الشعب!... ولكنّ الساحة لم تنج من بروز بعض عوامل العرقلة، التي كان من أهمّها "أصنام" صُنِعت، تصرف النّاس إليها يجتهدون في إرضائها وعبادتها من دون لله تعالى!... ولعلّ من أهمّ هذه "الأصنام": الشهداء والجرحى (شهداء الثورة وجرحاها) – العلم (علم البلاد المفدّى) – الثورة (وثوّارها الأماجد) – الوطنية (وهي صنم قديم جديد) - سيدي بوزيد – بطل الحوض المنجمي (المغمور) – الإعلام – الاتحاد العام التونسي للشغل (أو نادي الإضرابات) - الشَّعْب... وغيرها كثير في بلد صار فيه كلّ شيء سيّد نفسه!... والحقيقة أنّ حسن "التعبّد" يلزمني بالوقوف طويلا عند كلّ "صنم" لولا أنّي كفرت بالأصنام جميعا، مذ رضيت بالله ربّا واحدا لا شريك له!... غير أنّي من باب العناية بما يعبد بعض قومي أردت مناقشتهم في معبوداتهم علّي أنجح في صرفهم عمّا يخيّبهم ولا يزكّيهم!... فقد بات مؤلما أن نرى وزراءنا ورئيس حكومتنا ومجلس تشريع دستورنا ورئيس جمهوريتنا أسرى لهذه "الأصنام"، وكأنّ الشرعيّة لا تكون إلّا بها (الأصنام)!... فلا أحد من المسؤولين الحكوميين أو غيرهم يستطيع الحديث عن أيّ شيء دون أن يمرّ بالثورة ويسهب في تعديد أفضال الثوار وفي مقدّمتهم "الشهداء" الذين امتلأت بأهاليهم المحاكم، والجرحى الذين منعوا باعتصاماتهم حتّى وسائل النّقل من المرور، مطالبين دون إيتيكات بحقوقهم!... ولو قبل الله موتى الثورة شهداء ثمّ أعادهم إلى الدنيا للاموا أهلهم كيف يبيعون قيمة سامقة عليّة اسمها "الشهادة" بحطام من الدنيا زائل، بل لعاتبوهم حتّى على التتبّع القضائي إذ فضائل الشهيد لا تبقي للقصاص مكانا وإن كان في القصاص حياة كما وصف القرآن الكريم!... ولو أخلص الجرحى في عملهم الذي ساهموا به في تغيير ما كان في البلاد من الفساد لأبقوا على بعض جراحاتهم ذكرى تساعدهم على شكر الله الكريم الذي لولاه ما فرّ ابن علي ولا انتصب حكّام تونس الجدد!... ولو كان الجميع منصفين لعلموا أنّ موكب الشهادة قد سار قبل تاريخ 17 ديسمبر بكثير وقد احتفل بالكثير من الشهداء الأبرار نحسبهم، وقد كان يجدر بالكرام مراعاة السبق وتحكيم الأولويات بدل أن تسقطنا الرغبة في الحطام الدنياوي أنانيين جشعين ضيّقي قطاعات النّظر!... ... يتبع بإذن الله تعالى!...