أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر، وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين سادسا: أيها الحكام من رفق بالناس رفق الله به ومن شق عليهم شق الله عليه: روى مسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ. فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ. فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لاَ يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ». فالوالي الحكيم هو ذلك الذي يتفقد حاجة من ولاه الله أمورهم، ويحقق لهم الكفاية في حوائجهم، ولا ينشغل بنفسه وحاشيته عن تفقد أحوالهم وحل مشكلاتهم، فيستحق أن يرفق الله به، ويملأ القلوب محبة له. والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يدعو على من شق على الأمة بأن يلقى المشقة، كما يدعو للرفيق بأن يعامله الله تبارك وتعالى بمثل عمله، أي يفعل به ما فعل بعباده من الرفق مجازاة له بمثل فعله، وهذا دعاء ولا شك مستجاب؛ لأنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يشك عاقل في حقيقة استجابة الله تعالى لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يرتاب عاقل في أنه ما مرَّ على الناس حاكم أو أمير ذو عسف وعنت وجور وظلم وعامل الناس بالعتو والاستكبار إلا كان آخر أمره وبالا وانعكاسا للأحوال، ولعل ما جرى لحاكم تونس المستبد شاهد واضح على ذلك، وحتى إذا لم يعاقب بذلك في الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يعاقبه على ذلك يوم القيامة في سقر وبئس المستقر. وفيما رواه أبو يوسف القاضي بسند حسن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فِي حَوَائِجِهِمْ رَفَقَ اللهُ بِهِ يَوْمَ حَاجَتِهِ، وَمَن احْتَجَبَ عَنْهُمْ دُونَ حَوَائِجِهِمْ احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ» فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الاحتجاب عن قضاء مصالح الناس لونا من ألوان التعذيب، إذ يجعل الحياة على الناس شاقة، ولا يستطيع المظلوم أن يبلغ مظلمته ولا أن يأخذ حقه ولا أن ينتصف له، فكيف إذا مارس مع ذلك التعذيب البدني والنفسي على الناس؟! ولهذا كان عقلاء الحكام لا يتأخرون عن التعرف غلى حوائج الناس، ولا يتأخرون في قضائها. أخرج أبو داود بسند صحيح أن أَبَا مَرْيَمَ الأَزْدِيَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ أَبَا فُلاَنٍ. وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ، فَقُلْتُ: حَدِيثًا سَمِعْتُهُ أُخْبِرُكَ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ». قَالَ: فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ. ولهذا قالت الحكماء: الظلم لا يدوم وإن دام دمَّر، والعدل لا يدوم وإن دام عمَّر. الظلم مرتع وخيم وعاقبته وبال على الظالمين قبل المظلومين، وهذا من أبلغ الزجر عن المشقة على الناس أو تعذيب الناس، ومن أبلغ الحث على الرفق بعموم الرعية، وهو ما تظاهرت عليه الأدلة وجاءت به الأحاديث. وفيما أخرجه الشيخان عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ...» إلى آخر الحديث، والرعاية تعنى العناية والشفقة، مثلما يفعل الراعي الشفيق بمن تحت يده، وبهذا تستقر الحكومات والنظام ويحصل الانتظام. شتَّان بين دولةٍ أساسُ الحكم فيها الاستبداد والسجنُ والكرباجُ والتعذيب، ودولةٍ يقول حاكمُها عمر بن الخطاب t لوُلاته: «... أَلَا وَإِنِّي لَمْ أَبْعَثْكُمْ أُمَرَاءَ وَلَا جَبَّارِينَ، ولكِنْ بَعَثْتُكُمْ أَئِمَّةَ الهُدَي، يُهْتَدَي بِكُمْ، أدِرُّوا على المسلمين حقوقَهم، ولاَ تَضْرِبُوهم فَتُذِلُّوهُمْ، وَلاَ تُجَمِّرُوهُمْ (أي لا تحبسوهم بغير حق) فَتَفْتِنُوهُمْ، ولا تُغْلِقُوا الأَبْوَابَ دونَهم، فَيَأْكُلَ قَوِيُّهم ضَعِيفَهم، ولا تَسْتَأْثِرُوا عليهم فتَظْلِمُوهُم، ولا تَجْهَلُوا عليهم». وما أروعَ قولَه t : «أَيُّهَا الرُّعَاءُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حِلْمٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ، وَلَا أَعَمَّ نَفْعًا مِنْ حِلْمِ إِمَامٍ وَرِفْقِهِ، وَلَيْسَ مِنْ جَهْلٍ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ وَأَعَمَّ ضَرَرًا مِنْ جَهْلِ إِمَامٍ وَفَرَقَهِ(يعني شدته)، وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذْ بِالْعَافِيَةِ فِيمَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ يُعْطَ العَافِيَةَ مِنْ فَوْقِه». (انظر كتاب الخراج لأبي يوسف القاضي) وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحكام من ظلم الناس وأخذهم بالشدة، فقال فيما رواه مسلم: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ» يعني قليلَ الرحمة برعيَّتِه، والذي يسوقهم سَوْقًا شديدًا عنيفًا لا رفقَ فيه، ويأخذهم بالشدة والظلم ويطوعهم بالقهر والتعذيب. سابعا: الإقساط والإحسان والعدل أصلح أثرا وأجدى نفعا من الظلم والجور والتعذيب: إن الإقساط إلى الرعية والعدل فيهم والإحسان إليهم من أسباب رحمة الله جل وعلا بالحكام والمحكومين، وإن الظلم للرعية والشدة عليهم والجور عليهم من أسباب سخط الله تبارك وتعالى. أخرج مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِى حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا». وخير الأئمة من أحبته الرعية لرفقه، وشر الأئمة من كرهته الرعية لشدته وعسفه وظلمه وسماحه لزبانيته بتعذيب الناس. أخرج مسلم عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ». وهكذا كان الناس في العصر الأول، وهكذا كان الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون. وإذا نظرنا إلى مراحل السقوط في تاريخنا الإسلامي قاطبةً، بل في تاريخ كل أمم الأرض وجدنا أنها كانت دائمًا تمر بمراحل من الحكامِ الظلمة المستبدين، الذين يسوقون الأمةَ بعصا الأمن الغليظة، ويعتبرون أن تعذيب الناس وإخضاعهم بالقهر علامة القوة والهيبة، فيستبدون بآرائهم ويخضعون لأهوائهم غير عابئين بالرفق بالرعية أو مشاورة أهل الرأي فيها، أو بأخذها إلى ما فيه صلاحُ حالها، بل يتلذذون بمعاناة الناس ويستحلون تعذيبهم، ويسمحون بتكديس الثروات في أيدي أعوانهم. أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ؛ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا (أي: الحياة خير لكم من الموت)، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاَءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا». (أي فالموت خير لكم من الحياة). أفيمكن أن تخالفَ أمةٌ هذه المبادئَ الإنسانيةَ العاليةَ وهذه القيمَ الربانية الرفيعة ثم يكون لها شأنٌ أو كيانٌ محترمٌ، ويبقي اسمُها في سِجِلِّ الخلود؟! ثامنا: من أرقى نماذج العدل في الإسلام: فهذا الخليفة العادل عمر رضي الله عنه، يقف فيخطب الناس في مكة، وقد جاء الناس من جميع أقطار الدولة الإسلامية، فيعلن لهم أن سياسته تمنع بكل حسم تعذيب الناس أو ضربهم بغير حق أو أخذ أموالهم بغير حق، ويعطي لعموم الرعية رفع شكاواهم إليه شخصيا إن أصابهم شيء من ظلم الأمراء الذين يوليهم أمور البلاد، ويعلن أنه لن يترك حق المظلوم ولن يتأخر عن القصاص من أي حاكم يستغل سلطانه في إيذاء الناس بغير حق، فيقول رضي الله عنه: «أيها الناس إنا كنا نعرفكم (أي نعرف حقيقة ما في نفوسكم) إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ ينزل الوحي، وإذ نبَّأنا من أخباركم، ألا وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد انطلق ورُفع الوحي، وإنما نعرفكم بما أقول لكم، ألا ومن يظهر منكم خيرا ظننَّا به خيراً وأحببناه عليه، ومن يظهر منكم شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه، سرائركم فيما بينكم وبين ربكم». ثم يقول: «أما وإني والله لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ويأخذوا أموالكم، ولكني أبعثهم ليعلموكم دينكم وسننكم، ويعدلوا بينكم، ويقسموا فيكم فَيْأَكم، ألا من فُعل فيه شيء من ذلك فليرفعه إليّ، والذي نفس عمر بيديه لأُقِصَّن منه». وعندئذ قام عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين: أرأيت لو أن رجلا من المؤمنين كان على رعية فأدَّب رعيتَه، أكنت مُقِصَّه منه؟ قال: «وما لي لا أُقِصُّه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه». ثم يقول موجها كلامه للأئمة والولاة: «ألا لا تضربوهم فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقهم فتكفِّروهم، ولا تُجَمِّرُوهم فتفتنوهم، ولا تُنْزِلوهم الغِياض فتضيعوهم». هذا حديث أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وهو يبين لك كيف يكون منهج الإسلام في حماية الرعية وفي الرفق بها، والرفض التام لأي تعذيب لأحد من الناس. وهذا المنهج نفسه هو الذي سلكه الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد كتب إليه اثنان من ولاته قد ولاهما شيئا من أمور العراق، كتبا إليه يقولان: إن الناس لا يصلحهم إلا السيف (أي الأخذ بالشدة والترهيب والتخويف)، فكتب عمر رضي الله عنه إليهما يقول: «خبيثين من الخبث، رديئين من الرديء، تعرضان عليَّ بدماء المسلمين. ما أحد من الناس إلا دمكما أهون عليّ من دمه». بل إنه ولَّى على الموصل رجلا من ولاته، فوصل الرجل إلى الموصل فإذا هي من أكثر البلاد سرقا ونقبا، فكتب الرجل إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يعلمه حال البلاد، ويسأله: هل آخذهم بالظِّنة وأضربهم على التهمة أن يأخذ الناس بالظِّنَّة وأن يضربهم على التُّهمة! (أي يأخذ الناس بالظن والشبهة، ويضرب المشتبه فيهم حتى يعترفوا ويتبين الحق) أم آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة؟ فماذا كتب إليه عمر؟ كتب إليه: «خذوا الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يُصلحهم الحق فلا أصلحهم الله». يقول هذا الوالي: ففعلتُ ذلك، فما خرجتُ من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقا ونهبا. وهذه قصة نهديها إلى الذين يتصورون أن هيبة الدولة وأن حفظ الأمور لا تأتي إلا بالشدة والتخويف وبأخذ الناس بالظنة وبالتهمة، وبتخويف الناس وتعذيبهم. هذا بيان عملي يكشف أن أخذ الناس بالحق وعدم أخذ الناس بالتهمة هو السبيل إلى حفظ الأمن والنظام، فهل من مدكر؟. أسأل الله العظيم أن يحفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا وأن يرزق الأمة والأئمة الصلاح والإصلاح، وأسأله جل وعلا أن يهدى الأمة والأئمة وأن يصلح الرعاة والرعية وأن يؤلف بين قلوبهم في الخيرات وأن يدفع شر بعضهم عن بعض، إنه ولى ذلك والقادر عليه. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.