لا أدري كيف يسقط شخص مثل السيد علي العريض وزير الداخلية بتجربته السياسية المعارضة الطويلة في فخ مثل الذي نُصب له في شارع بورقيبة. الفخ ليس في اتخاذ القرار الخاطئ الذي يمنع حق التظاهر في ذلك الشارع المدوّن في سجلات الفضاءات المحررة فقط، وإنما في الطريقة الأمنية التي عُولج بها الموقف والتي تُحيل على أسلوب قديم يأبى التبدل. وِزْر ذلك الفخ وما انجر عنه من تداعيات وخيمة لا يعود بالضرر على السيد وزير الداخلية وعلى حزبه فقط وإلا لقلنا فليتحمل كل مسؤوليته. لكن الضرر الكبير والمقتل الأكبر تتحمله هذه الثورة الفتية ومنجزها الأهم الديمقراطية الوليدة التي هي صمام الأمان الوحيد لتحقيق أهداف الثورة الرئيسية المتمثلة في التوزيع العادل للثروة والسلطة وبناء استقلال وطني حقيقي غير مزيف يمكن كافة التونسيين من رفع رؤوسهم عالية بعد أن كانت مطأطئة لمدة طويلة . القوى المتربصة بالثورة والمضادة لها تحاول منذ ردح من الزمن إعادة تنظيم صفوفها المفتتة وتزيين صورتها المهشمة وكل ذلك من أجل العودة إلى السلطة بأي ثمن كان. حاولت في البداية من داخل مؤسسة الحكم نفسها مع حكومة الغنوشي الأولى والثانية ولما سقطت تلك الحكومة ذهبوا إلى بيته يتباكون على "حكيم الثورة" الذي اشتغل في مناصب قيادية حساسة مع بن علي طيلة عشرين سنة أو يزيد ونظموا اعتصام القبة الذي سرعان ما سقط بطريقة مدوية وكان في اعتقادهم أنهم سيقارعون به اعتصام ثوار القصبة الذين جاؤوا من فيافيهم ولم يتركوا هناك شيئا يخسرونه سوى قيودهم التي فكّتها الثورة. ثم التفوا على الثورة ومؤسساتها التي أنتجتها بطريقة تلقائية وتآمروا عليها فاستنسخوا منها ما يشبه المؤسسات الصورية مع حكومة الباجي الذي منحهم الترقيات والمواقع والمنافع لمزيد من الالتفاف على الثورة والذهاب بريحها، لكن الانتخابات جعلت كيد أعداء الثورة في نحرهم، بقطع النظر عمن هو الحاكم أو المحكوم فتلك أشياء قابلة للتغيير في ظل مناخ ديمقراطي سليم مسؤولية الجميع هو المحافظة عليه. ومنذ الانتخابات بدأت الطبول تدق وانبرت وسائل الإعلام على اختلافها وعلى تنوعها وخاصة التلفزية منها تبشر بالمنقذ صاحب المبادرة التي تحولت بسرعة البرق من مجرد بيان لا يتجاوز حجمه الصفحة الواحدة من الورق العادي تضمّن الوصفة العبقرية لإنقاذ البلاد مما تردت إليه !! إلى حشد الناس في ما سمي بالحزب الوسطي الكبير الذي لا بديل عنه في هذه المرحلة. هو الحلم الكبير بالعودة إلى السلطة، حلم لم يراود الحاخامات القدامى الذين حكموا البلاد أكثر من خمسين سنة متتالية فقط وإنما راود الذين ذاقوا حلاوتها لمدة شهرين لا أكثر. التقى الجمعان ومعهم جموع أخرى كثيرة في اجتماع المنستير الذي ذاع خبره في كل مكان على أنه الفتح المبين. لم يفاجئني الاجتماع ولا الموقع الذي نُظم فيه ولا من نظموه ولا العصبية البورقيبة التي أحيوها وهي رميم ولا سيد الأسياد الذي استحضرت روحه على طريقة العرّافين ولا الغلابى الذين جيء بهم على الطريقة التي كان يشتغل بها التجمع الدستوري المنحل وسلفه الاشتراكي الدستوري في تجميع الفقراء والمعدمين لتصورهم الكاميراهات وهم يهتفون باسم المجاهد الأكبر أو خلفه منقذ البلاد العباد، ولا جموح بعض الجامعيين والخبراء إلى السلطة الذي قدموا إلينا من بعض الجامعات الفرنسية والمؤسسات المالية الدولية متطوعين لخدمة البلاد فإذا بهم يتحولون بين يوم وليلة إلى سياسيين محترفين. الذي فاجأني إلى حد ما هو أن يتحول بعض من اليساريين، أقول البعض وليس كل اليساريين إلى مهندسين لذلك اللقاء الملتبس المبهم الذي وضع في سلة واحدة الضحية والجلاد. ليسوا مجرد يساريين من الدرجة الدنيا فمنهم رجال فكر وجامعيون ومحامون. أهو التاريخ يعيد نفسه لكن في شكل مهزلة هذه المرة كما يقول ماركس؟ فهناك تجربة مشابهة مع بن علي ورجاله نفذها جهابذة حركة آفاق من أمثال الشرفي ونالوا بها من المواقع والامتيازات والتأثير ما جعلهم يتخلون عن الأيديولوجيا الطبقية وعن الفكرة الديمقراطية التي خلنا يوما أنهم باتوا يؤمنون بها بدعمهم لأحد أعتى الاستبداديات، أم هي المصلحة الآنية المتأتية من مشاركة البعض منهم في حكومة الباجي ولذّة الحكم الذي تذوقوه؟ أم هو العدو الجديد المتمثل في القوى الدينية المتنامية التي هي في أوجها هذه الأيام مما جعلهم يتناسون جميع خلافاتهم وحتى تناقضاتهم مع أعداء الأمس من جلاديهم إن كانوا أعداء فعلا؟ الواقع أن هذا الخيار ليس مؤذيا لمسار الثورة وأهدافها فقط وإنما هو مضرّ شديد الضرر ببقية الفصائل اليسارية الراديكالية وحتى القومية التي فجرت الثورة أو شاركت فيها، ولكثير من الأحزاب السياسية الأخرى التي نشأت بعد الثورة وهي نظيفة اليد. ضرره متأت من أن الذاكرة الشعبية لا تزال تحتفظ بجرائم ما يزيد عن نصف قرن من حكم أولئك التجمعيين البورقيبيين الذين حكموا البلاد بمفردهم وقضوا قضاء مبرما على كل من اعترض سبيلهم، ولذلك صوتوا انتقاميا ضد كل ما يمت لتلك الحقبة بصلة بما فيها الخطاب الذي أعادت إنتاجه وسائل الإعلام بعد الثورة وهو من صنيع الآلة السياسية التجمعية التي صمّت آذان الناس بالحداثة والعقلانية والتسامح ..إلخ. ضرره كذلك متأت من أن وقوف أو التقاء القوى اليسارية الراديكالية والقومية ورموزها، وهي المعروفة برفضها لعودة التجمعيين وأسلافهم ومن شابههم إلى هرم السلطة، في مسيرات أو تجمعات أو مظاهرات احتجاجية جنبا إلى جنب مع وجوه سلطة بن علي الذين لم يغادروا الوزارة حتى بعد سقوطه، من حيث هم اختاروا أو لم يختاروا كما وقع في مسيرة الاتحاد العام التونسي للشغل وفي مسيرة 20مارس وفي 9 أفريل. إن ذلك الالتقاء العفوي غير المحسوب يضر شعبيا بصورة قوى صادقة في رغبتها في تحقيق أهداف الثورة ويضعها في نفس خانة أعدائها ويقلل كثيرا من حظوظها في النجاح في الانتخابات القادمة كما كان حالها في انتخابات التأسيسي فالمعركة الحقيقية ليست في شارع بورقيبة وإنما في مختلف المدن والقرى والأرياف أين يعيش الناس حياتهم بطريقة عادية حتى إن الكثير منهم لا يعرف ماذا يجري في ذلك الشارع. وعلى القوى الصادقة أن تحدد خطوط التماسّ بينها وبين من رهنوا البلاد وأجيالها المتجددة للصناديق المالية الدولية الجائرة حتى بلغت نسبة الديون ما يقارب 60 بالمائة من الناتج الوطني الخام. وأن تتمايز مع من وضعوا 30 بالمائة من شعبنا تحت حافة الفقر المدقع. وأن تختلف عن الذين نصبوا المحاكم والسجون والإعدامات والقتل الجماعي والتصفية على الهوية الفكرية والايديولوجية والسياسية. وأن لا ترتبط بمن كان سببا في هذا الكم الهائل من العاطلين الذين بلغوا يوم سقوط بن علي أكثر من 600 ألف وهم يتزايدون بمعدل 100 ألف في السنة بسبب اختياراتهم الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة التي يريدون إعادة إنتاجها بالعودة إلى السلطة من جديد. وأن لا تثق أبدا في من كرّسوا التفاوت الجهوي المقيت الذي صب أكثر من 90 بالمائة من ثروات البلاد في الشريط الساحلي والعاصمة وتركوا أهلنا في الداخل معدمين جيلا بعد جيل رغم ثرواتهم المنجمية والفلاحية والمائية الضخمة عقابا لهم على موقف اتخذوه يوما إلى جانب صالح بن يوسف وضد بورقيبة. وأن لا تطمئن أبدا إلى من ملأ البلاد فسادا وجورا وارتمى في أحضان الأسياد المستعمرين القدامى والجدد لكي يوفروا له الحماية والبقاء في السلطة خدمة لمصالحهم ولجواسيسهم الذين نفذوا الاغتيال في رموز الثورة الفلسطينية على مرمى حجر من قصر السيادة الكبرى في قرطاج. هؤلاء أيها المناضلون الشرفاء يساريين كنتم أم قوميين أو حتى ليبراليين أو أي لون اخترتموه لأنفسكم ليسوا الترويكا الحاكمة التي لم يمض على وجودها في الحكم سوى ثلاثة أشهر، هؤلاء هم التجمعيون البورقيبيون الذين حكموا هذا البلد أكثر من نصف قرن جعلوا منه حطاما حقيقيا وهم اليوم يقدمون أنفسهم منقذين، ولكي لا تضيع البوصلة أقول انظروا ماذا أنتم فاعلون؟