الكلام صناعة برع فيها اليوم الكثير من النّاس، ممّن سمحت لهم الظروف بالبروز واعتلاء المناصب وتبوّؤ الإشراف على المجالس!... فالنّاس في هذه الدّنيا كما أرى صنفان، صنف سار تحت الأنوار وقد يُخشى عليه – لا قدّر الله – من قلّة النّور بين يديه يوم القيامة إن هو حاد عن الحقّ، وصنف وُجد في الظلّ بعيدا عن الأنوار فلا أنار ولا استنير بفكره؛ وقد يظلّ على ذلك حتّى يُقبض!... وقد كان حريّ بالصنف الأوّل أن يحتاط لنفسه ويتخيّر لها ما ينفعها فينظر كيف تكون الأنوار والأضواء مساعدة له على التزام الحق والنطق به، وكيف تكون عامل تنميّة لعمله، فإنّ أجره يعظم بقدر ما أشاعت الأنوار كلماته الرّسالية فساعدت على إيقاظ همّة أو تجديد عزمة أو قيام ثورة ضدّ الباطل. وإنّ وزره ليتعاظم بقدر ما نُقِل عنه باطل أو رغّبت كلماتُه في باطل أو أعان بكلمة واحدة على باطل حتّى ليأتي يوم القيامة لا قدّر الله آئسا من رحمة الله تعالى!... وقد نظرت حولي فرأيت الصورة بشعة جدّا لكلمة سمعها أناس فأرادوا العمل بها وتنزيلها في واقعهم فوجدوها عصيّةً لا تستجيب شحيحةً لا تتكرّم بخيلةً لا تتحرّر من القعود خوّارةً لا تتجاسر ناقصةَ الإيمان لا تتوكّل على الله كما أراد، فأنّى لها التأثير في النّاس وأنّى لقائلها أن يُحترم لدى النّاس وأنّى للنّاسِ أن يأخذوا بها وإن جيّش النّاسُ من حولها النّاسَ!... وإذا كنّا هذه الأيّام نتحدّث عن الرّبيع العربي وإزهاره؛ فإنّ الرّبيع لا يزهر في أرض جدباء غارت مياهها. وإنّ مياهَ أراضينا إيمانٌ بالله صادق يُروَى منه كلّ النّاس ولا سيّما المؤمنين وبالأخص منهم المنكوبين ذوي البلايا والرزايا!... أؤلئك الذين فقدوا الغالي والنّفيس، أولئك الذين ابتلوا في ديارهم بمَن يعيد أيّام فرعون وهامان وقارون ومَن قبلهم أو بعدهم مِن الظلمة المارقين من حدود الإنسانيّة!... يجتمع الأعيان ويجتهدون – جزاهم الله خيرا – في استدرار الدعم لإخوانهم في سوريا، فيتّفقوا على إقامة جمعة جامعة لأهل كوبنهاغن كلّها، جاعلين المساجد لتلك الجمعة مفتوحة فقط لأصحاب الأعذار الذين منعتهم سنّ متّقدّمة أو أمراض مقعدة أو أسقام مُذهلة. وتُنتظر الأعداد الهائلة التي قد تعسّر على المارّة المرور، فلا يلتحق بالساحة المهيّأة للحدث (ساحة البرلمان) إلّا أعداد قليلة تؤكّد مدى خطورة الدّاء الذي أصابنا والذي قتل فينا الاهتمام حتّى ما بات منّا من هو منّا!... تقام مؤتمرات ضخمة تأكل أموالا ما إنّ بعضها ليَقِي غزّة الضنك!... تتمخّض عن منع رفع راية كاد أهلها جميعا يهلكون دون رفعها!... بحجّة مراعاة ما لا يمكن مراعاته في سوق كلمة تحدّت كلّ المصاعب وذلّلت كلّ المسافات من أجل المناداة بحقّ المهجّرين في العودة والتحرّر والحياة!... وعجبا كيف نطلب لأنفسنا ما لا نراه صالحا أو مناسبا لغيرنا من بني جلدتنا؛ ممّن سهروا معنا الليالي لإنجاح مؤتمراتنا وتظاهراتنا ودرّبوا سواعدهم على رفع راياتنا!... لا بدّ أن يقتنع صنّاع الكلمة بضرورة الإقلاع عن القوالب القديمة للكلمة، فإنّ الرّبيع ما أزهر في بعض البلاد العربيّة إلّا بتحطيمها واعتماد غيرها ممّا يُعلي من مقادير الصراحة ومن القدرة على مواجهة الظالم وممّا ينفي الانحناء لغير خالق هذه الأجساد!... كان على أصحاب الحسابات الضيّقة ألّا يقلقوا غيرهم الذين فكّوا قيودهم فلا يكدّروا عليهم صفو ربيعهم ولا يفسدوا فطرة حركاتهم وواقعية تحرّكاتهم!... تريد الكلمة للرّبيع أن يزهر ولكنّ الكلمة وحدها لا تجعل ذلك ممكنا إلّا إذا صادفت من قائلها صدقا وعزما وإخلاصا، وإلّا فقد يستمرّ الخريف ويعقبه شتاء فيه الزمهرير المجمّد الدّماء في العروق والمشلّ الحركة!...