تحتفل شعوب العالم يوم العاشر من شهر ديسمبر بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ذلك الإعلان كان بمثابة الطفرة المتميزة التي أدت تدريجيا إلى عولمة مفاهيم حقوق الإنسان وانتشار ثقافة حماية البشر من الاضطهاد والاستبداد والطغيان وإرهاب الدولة . وتعمق الوعي بهذه الحقوق حتى أصبحت لها مراكز دولية في شتى أصقاع العالم ، ودخلت برامج التعليم في المدارس والجامعات ، وعقدت المؤتمرات والمنتديات الدولية لدراستها . وشيئا فشيئا تحولت الدولة الحديثة من مؤسسة سياسية همها الأول توجيه الناس على أساس الواجبات التي تحتمها عليهم القوانين ، إلى جهة مسؤولة عن تثقيف المواطنين بثقافة الحقوق التي تحميهم من الاستغلال والابتزاز وتصون كرامتهم وإنسانيتهم ، دون إغفال جانب الواجبات والمسؤوليات المناطة بعهدتهم . فالدولة الحديثة أصبحت اليوم مطالبة بضمان حقوق مواطنيها بقدر لا يقل عن ضمان حقوقها . ومع الأسف الشديد ، لا تزال بلادنا في هذا المجال تتذيل القائمات الدولية وحتى العربية منها ، وبالرغم من سعي الحكم في بلادنا إلى تأميم قضايا حقوق الإنسان وتبنيه خطاب الديمقراطية بهدف إفراغها من محتواها الحقيقي ، وبغية كسب ود ورضا حكومات الدول الكبرى التي تتبنى قضايا الحرية وحقوق الإنسان ، ولغرض ضرب القوى السياسية الحية التي يرى فيها مسامير نعشه ، ولإسكات المنظمات الحقوقية التي أنشأت خصيصا للدفاع عن الإنسان .... إلا أن التطور السريع لتكنولوجيا الاتصال السمعي والبصري والرقمي لم يترك زاوية مظلمة من زوايا المعمورة دون أن يسلط عليها الضوء وينقلها للعالم كما هي دون تشويه أو تزييف . تحل علينا هذه الذكرى والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان موءودة بسيف سياسي موشح قضائيا ، وجمعية القضاة الشرعية لا تزال مدجّنة بعد انقلاب على مكتبها التنفيذي وتشريد أعضائه بنقل تعسفية ، الأحزاب السياسية المستقلة محاصرة المقرات إن سمح لها بتسويغ مقرات ، مناضليها مراقبون آناء الليل وأطراف النهار، صحفها تصادر بين الفينة والأخرى وفق " قوانين التعليمات " وبلغ الأمر درجة عقلة معدات صحيفة " الموقف " لبيعها بالمزاد العلني ، وهو ما لا يستوعبه العقل البشري في القرن الحادي والعشرين وخصوصا في بلاد مقبلة على انتخابات رئاسية وتشريعية يفترض أن تسبقها موجة من الانفتاح والإعتدال والترفع عن الأساليب الكيدية والبدائية في تعامل الحكم مع فرقاء الساحة السياسية ، أما مواقعها الالكترونية فهي تتعرض باستمرار للحجب والقرصنة والتدمير، المئات من الشباب يحاكم بقانون الإرهاب ويسلط عليه أقسى العقاب في محاكمات منع فيها حتى المحامين من آداء وظائفهم القانونية والطبيعية ، الآلاف من الشباب المعطل عن العمل يحترق ربيع عمره بين المقاهي وفي عرض البحار على متن قوارب الموت ،المئات من " المواطنين " لازالوا يلهثون وراء بطاقة هوية أو جواز سفر لإثبات انتمائهم لهذا الوطن ..... وإذا كانت هذه الذكرى تمثل ، عند الشعوب التي تعيش نظما تحررية وديمقراطية ، مناسبة لاستحضار أهم المحطات التاريخية التي ساهمت في إرساء وتكريس مبادئ وقيم حقوق الإنسان ، فهي عندنا مناسبة لتوكيد المطالبة بوجوب أن تنهض بلادنا بالعمل على إعادة النظر في التشريعات الدستورية الاستثنائية التي تحد من الحريات وتتعارض مع مبادئ الحرية والديمقراطية الواردة في الإعلان العالمي ، وتشريع قانون انتخابي ديمقراطي يقطع مع ثقافة الرئيس الواحد والحزب الأوحد ، ويفتح المجال على قدم المساواة أمام كل الشخصيات الوطنية للترشح لرئاسة الجمهورية ، لا أن ينتهك في كل مرة دستور البلاد ليُفصّله الماسكين بزمام الأمور على المقاس وكما يحلو لهم دون رقيب أو حسيب . وهي كذلك مناسبة للمطالبة بإطلاق سراح كافة مساجين الحوض المنجمي وتطبيق التشريعات المتعلقة بحقوق الإنسان في حالة توجيه الاتهام إليه ، أو خضوعه للمساءلات الجزائية ، مثل حالات إلقاء القبض والتحقيق وضرورة توفير حماية قانونية بواسطة محام فور اعتقاله ، والتحقيق في جميع شكاوي التعذيب والانتهاكات التي تحصل في المخافر والسجون ومعاقبة أي مسؤول يثبت تورطه في ذلك . كما أنها مناسبة للمطالبة بفتح أبواب الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وعقد مؤتمرها الخامس ، والمطالبة بدعم استقلال القضاء وحرية الصحافة وتيسير صدور الصحف المستقلة عن الحكم ورفع القيود عن مسؤوليها ، وهي أيضا مناسبة للمطالبة ببرلمان حقيقي يساءل الحكومة ويحاسبها عن كل كبيرة وصغيرة ، لا برلمانا مدمنا على رفع الأيادي والمصادقة والتصفيق..... منذ الاستقلال الذي حققه آبائنا وأجدادنا بأرواحهم ودمائهم ، ظل الشعب التونسي ينتظر ، وطال انتظاره لأمل تحقيق حلمه بأن تتحول بنود حقوق الإنسان ومواد الدستور وقواعد الحريات إلى حقيقة ملموسة على أرض الواقع ، واقع يسمح له بممارسة حرياته دون وصاية أو قيود ، ويعلو فيه القانون وتسيطر فيه قواعد الحقوق العامة ، أي اختصارا أن يعيش مجتمعنا حياة ديمقراطية عملية حقيقية وليس مجرد شعارات جوفاء ، تتردد في الهواء ، وتتكرر في نشرات الأنباء . فمجتمعنا لا يطلب حقوقا استثنائية أو تعجيزية ، وإنما ينشد حقوقه الطبيعية التي يكفلها له دستور البلاد وهو ما أكده واعترف به الساهرون على أمورنا ذات فجر منذ أكثر من عقدين ونيف !
ظاهر المسعدي جريدة الموقف لسان الحزب الديمقراطي التقدمي