السّلام عليكم... دُعيت إلى برنامج إعلاميّ إذاعي تناول دور المثقّف في فترتي ما قبل الثّورة و بعدها، في بلدي تونس. فكان أن حرك فيّ أن أنشرَ من جديد مقالا رأيا - نشرتموه لي منذ سنوات و أنتم مشكورون على ذلك - كنتُ قد تناولتُ فيه جزء من موضوع البرنامج، و هو المثقّف و الدّيكتاتور. لأنّ أيّام كتابته، لم يخلُد بذهني أنّي سأتكلّم في دور المثقّف بعد ثورة ستقوم في بلدي يهرب فيها الدكتاتور. كما لم يخلُد بذهني كذلك، أنّه سيأتي يومٌ أمضي فيه ما أكتُب باسمي الحقيقي و أودّع بذلك "فاهم التونسيّ" و "فاهم العربي" الذي تكرّمتم بتنزيله أسفل ما لي تنشرون... و الفضل في كلّ ذلك قطعا لله، و للشّهداء، و للجرحى، و للمناضلين، الّذين لولاهم، لما كنّا في هكذا حريّة. فعلاقة المثقّف بالحاكم السّياسي في أيّام الدّيكتاتورية، طبَعها في غالبها التّواطؤ على الظّلم. و التّواطؤ هذا، ظاهرة اجتماعيّة نفسيّة في حدّ ذاته، مثل ما هو ظاهرة سلوكية فرديّة. لها تجلّياتٌ واضحة عديدة، تكشفها و تُعلن عنها. كما لها كذلك مخلّفات عديدة في المجتمع، تؤثّر سلبا في تقدّمه و حرّيته و تأصّله و انفتاحه. سواء في عصر التّواطؤ نفسه، أو في ما يتبعه من عصورٍ. حيث لا تلتئم جراحُها سريعا و تبقى آلامها لأجيال تقلّ أو تكثر حسب وتيرة الديناميّة السوسيولوجيّة الغالبة في ذاك المجتمع. و إذا تناولنا مظاهر ذاك التّواطؤ، فيمكننا حصرها في سلوكات و تصرّفات و إجراءات، تشترك كلّها على أنّ القيام بها و تحقيقَها، يوجب تغييب الضّمير و لو لفترة. و ذلك قياسا على معنى الحديث الشريف:" لا يعصى المسلم ربّه و هو مؤمن..." و التي يُمكن اختزالها في بعض التّجلّيّات... فمن تلك التّجلّيّات، تلميع المثقّف صورة ذاك الحاكم المستبدّ بطرق فريدة و عديدة. فمرّة بإهدائه نجاحا من نجاحاته الجماهيريّة. و الزّعم بأنّ ذاك النّجاحُ إنّما هو نتيجة العناية الموصولة، و الرّعاية التّامة لفخامة الحاكم. و مرّة بالدّعاية المباشرة له و لسياسته الرّشيدة في المحافل العامّة داخل الوطن و خارجه. فتراه يعلّق صورته على صدره مثلا، أو يلتحف بشعار حزبه. و مرّة يكون مدح الحاكم أصلا هو موضوع إنتاجه الثّقافي. فيُسوّق الحاكم ذلك الظّهور خارجيّا و داخليّا على أنّه تعبير صريح لمساندة مكوّن هامّ من مكوّنات الشّعب إيّاه. و أيّ مكوّن؟ إنّه الشّريحة المتعلّمة المثقّفة في المجتمع، أي الشّريحة التي لها زادٌ معرفيٌّ يُمكّنها من التّمييز بين ما يُفيد المجتمع و ما يضرّه. و من التّمييز بين القائد النّاجح و القائد الفاشل... و لسان حال الحاكم يقول عندها: إذا كان المتنوّر بالعلم من شعبي يُساندني، فكيف بعوام الناس من ليس لهم علم؟ والمثقّف الذي أقصده هو صاحب الإنتاج الفكري و الإبداع المُميّز عن العادة. و هو بانخراطه الأعمى ذلك، في تجميل صورة المستبدّ، إنّما مثله مثل الاقتصاديّ و الرّياضيّ و الفنّان... يشتركون كلّهم في علاقة صامتة يقبض كلّ طرف فيها مقابل خدمته للطّرف الآخر في كنف الاصطفاف و النّظام، و تبادل الأدوار في بعض الأحيان. و في وجه آخر لحقيقة التواطؤ بين المثقّف و الدّيكتاتور، ما يمكن وصفه بتطعيم الديكتاتور لفريق عمله بعناصر و شخصيّات من شريحة المثقّفين. فيكون المثقّف نفسه، عضوا في عصابته السيّاسيّة، فتُضرب هناك عصافير عديدة بحجرٍ واحد... وإلى الجزء الثاني و الأخير غدا إن شاء الله. فتحي الزغل